الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: معالم السنن
.ومن باب الرجل يكري دابته على النصف أو بالسهم أو ببعض غنيمة: قلت: اختلف الناس في هذا فقال أحمد بن حنبل فيمن يعطي فرسه على النصف مما يغنمه في غزاته أرجو أن لا يكون به بأس. وقال الأوزاعي ما أراه إلاّ جائزا وكان مالك بن أنس يكرهه. وفي مذهب الشافعي لا يجوز أن يعطيه فرسا على سهم من الغنيمة فإن فعل فله أجر مثل ركوبه. وقوله: «فغير سهمك أردنا» يشبه أن يكون معناه إني لم أرد سهمك من الغنم إنما أردت مشاركتك في الأجر والثواب والله أعلم. .ومن باب الأسير يوثق: قوله: «فشنوا الغارة» معناه بثوها من كل وجه؛ وأصل الشن الصب يقال شننت الماء إذا صببته صبا متفرقا، والشنان ما تفرق من الماء. وفيه دلالة على جواز الاستيثاق من الأسير الكافر بالرباط والقيد والغل وما يدخل في معناها إن خيف انفلاته ولم يؤمن شره إن ترك مطلقا. .ومن باب الأسير ينال بضرب: السحب الجر العنيف والقليب البئر التي لم تطو وإنما هي حفيرة قلب ترابها فسميت قليبا، والروايا الإبل التي يستقى عليها واحدتها راوية وأصل الراوية المزادة فقيل للبعير راوية لحملها المزادة. وفيه دليل على جواز ضرب الأسير الكافر إذا كان في ضربه طائل. .ومن باب الأسير يكره على الإسلام: قلت: المقلات هي المرأة التي لا يعيش لها ولد وأصله من القلت وهو الهلاك قال الشاعر: وفيه دليل على أن من انتقل من كفر وشرك إلى يهودية أو نصرانية قبل مجيء دين الإسلام فإنه يقر على ما كان انتقل إليه وكان سبيله أهل الكتاب في أخذ الجزية منه وجواز مناكحته واستباحة ذبيحته. فأما من انتقل عن شرك إلى يهودية أو نصرانية بعد وقوع نسخ اليهودية وتبديل ملة النصرانية فإنه لا يقر على ذلك، وأما قوله سبحانه: {لا إكراه في الدين} [البقرة: 256] فإن حكم الآية مقصور على ما نزلت فيه من قصة اليهود، فأما إكراه الكفار على دين الحق فواجب ولهذا قاتلناهم على أن يسلموا أو يؤدوا الجزية ويرضوا بحكم الدين عليهم. .ومن باب قتل الأسير ولا يعرض عليه الإسلام: قلت: معنى خائنة الأعين أن يضمر بقلبه غير ما يظهره للناس فإذا كف بلسانه وأومأ بعينه إلى خلاف ذلك فقد خان. وكان ظهور تلك الخيانة من قبل عينيه فسميت خائنة الأعين، ومعنى الرشد هاهنا الفطنة لصواب الحكم في قتله. وفيه دليل على أن ظاهر السكوت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشيء يراه يصنع بحضرته يحل محل الرضا به والتقرير له. قلت: عبد الله بن أبي السرح كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فارتد عن الدين فلذلك غلّظ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما غلظ على غيره من المشركين. قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن أنس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاءه رجل فقال ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال اقتلوه». قلت: في كون المغفر على رأسه دليل على جواز ترك الإحرام للخائف على نفسه إذا دخل مكة وعلى أن صاحب الحاجة إذا أراد دخول الحرم لم يلزمه الإحرام إذا لم يرد حجا أو عمرة، وكان ابن خطل بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه مع رجل من الأنصار وأمر الأنصاري عليه، فلما كان ببعض الطريق وثب على الأنصاري فقتله وذهب بماله فلم ينفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم له الأمان وقتله بحق ما جناه في الإسلام. وفيه دليل على أن الحرم لا يعصم من إقامة حكم واجب ولا يؤخره عن وقته. .ومن باب المن على الأسير بغير فداء: قوله: «سلما» يَعني أسراء، يقال رجل سلَم أي أسير وقوم سلم الواحد والجماعة سواء قال الشاعر: قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسارى بدر لو كان مطعم بن عدي حيا ثم حكمني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له». «النتنى» جمع النتن وهو المنتن، يقال نتن الشيء ينتن فهو نتن ويجمع على النتنى كما يقال زمن الرجل يزمن فهو زمن ويجمع على الزمنى. وفيه دليل على جواز إطلاق الأسير والمن عليه من غير فداء. قال أبو داود: حدثنا عبد الرحمن بن المبارك العيشي حدثنا سفيان بن حبيب حدثنا شعبة عن أبى العبس، عَن أبي الشعثاء عن ابن عباس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة». قال أبو داود: حدثنا علي بن الحسين الرقي حدثني عبد الله بن جعفر الرقي أخبرني عبيد الله بن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن عمرو بن مرة عن إبراهيم عن مسروق عن عبد الله بن مسعود «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد قتل عقبة بن أبي مُعَيط قال من للصبية قال النار». قلت: في هذه الأحاديث الثلاثة حديث جبير بن مطعم وحديث ابن عباس وحديث عبد الله بن مسعود دليل على أن الإمام مخير في الأسارى البالغين إن شاء من عليهم وأطلقهم من غير فداء وإن شاء فاداهم بمال معلوم وإن شاء قتلهم أي ذلك كان أصلح ومن أمر الدين وإعزاز الإسلام أوقع. وإلى هذا ذهب الشافعي وأحمد وهو قول الأوزاعي وسفيان الثوري. وقال أصحاب الرأي إن شاء قتلهم وإن شاء فاداهم وإن شاء استرقهم ولا يمن عليهم فيطلقهم بغير عوض فيكون فيه تقوية للكفار وزيادة في عددهم. وزعم بعضهم أن المن كان خاصا للنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره. قلت: التخصيص في أحكام الشريعة لا يكون إلاّ بدليل والنبي صلى الله عليه وسلم إذا حكم بحكم في زمانه كان ذلك سنة وشريعة في سائر الأزمان وقد قال سبحانه: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منًا بعد وإما فداء} [محمد: 4] الآية. وهذا خطاب لجماعة الأمة كلهم ليس فيه تخصيص للنبي صلى الله عليه وسلم وإنما كان فعله امتثالا للآية، وأما الذين اعتلوا به من تقوية الكفر فإن الإمام إذا رأى أن يعطي كافرا عطية يستميله بها إلى الإسلام كان ذلك جائزا وإن كان في ذلك تقوية لهم فكذلك هذا. وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من الكفار غنما بين جبلين. حدثناه ابن الأعرابي حدثنا عبد الرحمن بن منصور الحارثي حدثنا عبد الرحمن بن يحيى بن سعيد العذري عن مالك بن أنس، عَن أبي الزناد عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه، قال: «جاء رجل من العرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل شيئا بين جبلين فكتب له بها فأسلم ثم أتى قومه فقال لهم أسلموا فقد جئتكم من عند رجل يعطي عطاء من لا يخاف الفاقة». وفي أخذه في الفداء المال دليل على فساد قول من يقول أنه يفادي بالرجال ولا يفادي بالمال ويحكى نحو هذا القول عن مالك بن أنس. قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في قصة سبي هوازن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ردوا عليهم نساءهم وأبنائهم فمن مسَّك بشيء من هذا الفيء فإن له علينا به ست فرائض من أول شيء يفيئه الله علينا ثم دنا من بعير فأخذ وبرة من سنامه ثم قال يا أيها الناس أنه ليس لي من هذا الفيء ولا هذا ورفع أصبعيه إلاّ الخمس والخمس مردود عليكم فأدوا الخياط والمخيط فقام رجل في يده كُبّة من شعر فقال أخذت هذه لأصلح بها برذعة لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لك فقال أما إذا بلغت ما أرى فلا ارب لي فيها ونبذها». قوله: «من مسَّك» يريد أمسك، مسّكت بالشيء وأمسكته بمعنى واحد وفيه إضمار وهو الرد كأنه قال من أصاب شيئا من هذا الفيء فأمسكه ثم رده وقوله: «من أول شيء يفيئه الله علينا» فإنه يريد الخمس الذي جعله الله له من الفيء وكان الخمس من الفيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ينفق منه على أهله ويجعل الباقي في مصالح الدين وسد حاجة المسلمين، وذلك معنى قوله: «إلاّ الخمس والخمس مردود عليكم». وقد استدل بعض أهل العلم بهذا على أن سهم النبي صلى الله عليه وسلم ساقط بعد موته ومردود على شركائه المذكورين معه في الآية، وكذلك سهم ذي القربى وإلى هذا ذهب أصحاب الرأي. وقال بعضهم هو للخليفة بعده يصرفه فيما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرفه فيه أيام حياته. وقال الشافعي هو موضوع في كل أمر حصن به الإسلام وأهله من سد ثغر وإعداد كراع وسلاح وما دعا إلى مصلحة فيه. وفي قوله: «أدوا الخياط والمخيط» دليل على أن قليل ما يغنم وكثيره مقسوم بين من شهد الوقعة ليس لأحد أن يستبد بشيء منه وإن قل إلاّ الطعام الذي قد وردت فيه الرخصة وهذا قول الشافعي. وقال مالك إذا كان شيئا خفيفا فلا أرى به بأسا أن يرتفق به آخذه دون أصحابه.
|