الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: خصائص التصور الإسلامي ومقوماته **
والخاصية الرابعة في هذا التصور هي .. التوازن .. التوازن في مقوماته، والتوازن في إيحاءاته. وهي تتصل بخاصية "الشمول" التي سبق الحديث عنها. فهو تصور شامل. وهو شمول متوازن. وقد صانته هذه الخاصية الفريدة من الاندفاعات هنا وهناك، والغلو هنا وهناك، والتصادم هنا وهناك. هذه الآفات التي لم يسلم منها أي تصور آخر. سوءا التصورات الفلسفية، أو التصورات الدينية التي شوهتها التصورات البشرية، بما أضافته إليها، أو نقصته منها، أو أوّلته تأويلاً خاطئاً، وأضافت هذا التأويل الخاطئ إلى صلب العقيدة وتتمثل هذه الخاصية في عدة موازنات، نذكر منها أبرزها: هناك التوازن بين الجانب الذي تتلقاه الكينونة الإنسانية لتدركه وتسلم به، وينتهي عملها فيه عند التسليم، والجانب الذي تتلقاه لتدركه، وتبحث حججه وبراهينه، وتحاول معرفة علله وغاياته وتفكر في مقتضياته العملية، وتطبقها في حياتها الواقعية. والفطرة البشرية تستريح لهذا ولهذا، لأن كليهما يلبي فيها جانباً أصيلاً، مودعاً فيها وهي تخرج من يد بارئها. وقد علم الله أن الإدراك البشري لن يتسع لكل أسرار هذا الوجود، ولن يقوى على إدراكها كلها، فأودع فطرته الارتياح للمجهول، والارتياح للمعلوم، والتوازن بين هذا وذاك في كيانها، كالتوازن بين هذا وذاك في صميم الوجود. إن العقيدة التي لا غيب فيها ولا مجهول، ولا حقيقة أكبر من الإدراك البشري المحدود، ليست عقيدة، ولا تجد فيها النفس ما يلبي فطرتها، وأشواقها الخفية إلى المجهول، المستتر وراء الحجب المسدلة .. كما أن العقيدة التي لا شيء فيها إلا المعمّيات التي لا تدركها العقول ليست عقيدة! فالكينونة البشرية تحتوي على عنصر الوعي. والفكر الإنساني لا بد أن يتلقى شيئاً مفهوماً له، له فيه عمل، يملك أن يتدبره ويطبقه.. والعقيدة الشاملة هي التي تلبي هذا الجانب وذاك، وتتوازن بها الفطرة، وهي تجد في العقيدة كفاء ما هو مودع فيها من طاقات وأشواق. فإذا كانت ماهية الذات الإلهية. وكيفية تعلق إرادة الله بالخلق وحقيقة الروح .. من الحقائق التي لا سبيل إلى الإحاطة بها –كما أسلفنا-فهناك خصائص الذات الإلهية: من وجود، ووحدانية، وقدرة، وإرادة، وخلق، وتدبير … وكلها مما يعمل الفكر البشري في إدراكه، ومما يستطيع أن يدرك ضرورته ومقتضياته في الوجود. والإسلام يعرض هذه الخصائص ببراهينها المقنعة.. وهناك "الكون" وحقيقته، ومصدر وجوده، وعلاقته بخالقه، وعبوديته له، واستعداده لاستقبال الحياة، وعلاقته بالإنسان وعلاقة الإنسان به.. وهناك "الحياة" بشتى أنواعها وأجناسها وأشكالها ودرجاتها، ومصدرها، وعلاقتها بطبيعة الكون، وعلاقتها بمبدعه ومبدعها.. وهناك "الإنسان" وحقيقته، وخصائصه ومصدره، وغاية وجوده، ومنهج حياته.. وكلها ترد في منطق مفهوم واضح، مريح للعقل والقلب. مدعم بالبراهين التي تتلقاها الفطرة بالقبول والتسليم: (الطور: 35-36) (الأنبياء: 21-24) (يس: 81، 82) (يس: 78، 79) (النمل: 60-64) (الروم: 20-25) وهكذا وهكذا من الحجج الملزمة، والآيات المعروضة في الأنفس والآفاق، وهي معروضة للنظر والتدبر، كما أنها معروضة للبرهنة والحجة.. والإدراك البشري مطلق للنظر فيها، والتلقي عنها، ومناقشة حجيتها على القضايا المسوقة لإثباتها .. وكلها في دائرة النظر، وفي مستوى الإدراك. وهكذا تجد الفطرة البشرية في التصور الإسلامي ما يلبي أشواقها كلها: من معلوم ومجهول، ومن غيب لا تحيط به الأفهام ولا تراه الأبصار، ومكشوف تجول فيه العقول وتتدبره القلوب. ومن مجال أوسع من إدراكها تستشعر إزاءه جلال الخالق الكبير، ومجال يعمل فيه إدراكها وتستشعر إزاءه قيمة الإنسان في الكون وكرامته على الله. وتتوازن الكينونة الإنسانية بهذا وذلك، وهي تؤمن بالمجهول الكبير، وهي تتدبر المعلوم الكبير.. والتوازن بين طلاقة المشيئة الإلهية وثبات السنن الكونية.. فالمشيئة الإلهية طليقة، لا يرد عليها قيد ما، مما يخطر على الفكر البشري جملة. وهي تبدع كل شيء بمجرد توجهها إلى إبداعه. وليست هنالك قاعدة ملزمة، ولا قالب مفروض تلتزمه المشيئة الإلهية، حين تريد أن تفعل ما تريد: (النحل: 40) (آل عمران: 40) (آل عمران: 47) (هود: 71-73) (آل عمران: 59-60) (آل عمران: 49) (البقرة: 259) (الأنبياء: 68-70) (الشعراء: 61-63) (الطلاق: 1) وهكذا. وهكذا. مما يقرر طلاقة المشيئة الإلهية، وعدم تقيدها بقيد ما، مما يخطر على الفكر البشري، مما يحسبه قانوناً لازما، وحتمية لا فكاك منها.. وفي الوقت ذاته شاءت الإرادة الإلهية المدبرة، أن تتبدى للناس – عادة – في صورة نواميس مطردة، وسنن جارية، يملكون أن يرقبوها، ويدركوها، ويكيفوا حياتهم وفقها، ويتعاملوا مع الكون على أساسها.. على أن يبقى في تصورهم ومشاعرهم أن مشيئة الله – مع هذا- طليقة، تبدع ما تشاء، وأن الله يفعل ما يريد، ولو لم يكن جارياً على ما اعتادوا هم أن يروا المشيئة متجلية فيه، من السنن المقررة والنواميس المطردة. فسنّة كذلك –وراء السنن كلها- أن هذه المشيئة مطلقة، مهما تجلت في نواميس مطردة وسنن جارية – ومن ثم يوجه الله الأبصار والبصائر إلى تدبر سننه في الكون، والتعامل معها، والنظر في مآلاتها – بقدر ما يملك الإدراك البشري- والانتفاع بهذا النظر في الحياة الواقعة: (البقرة: 258) (يس: 40) (الأحزاب: 62) (آل عمران: 137) (السجدة: 26) (الروم: 47) (يونس: 13) (الأعراف: 96) وبين ثبات السنن وطلاقة المشيئة، يقف الضمير البشري على ارض ثابتة مستقرة، يعمل فيها، وهو يعلم طبيعة الأرض، وطبيعة الطريق، وغاية السعي، وجزاء الحركة. ويتعرف إلى نواميس الكون، وسنن الحياة، وطاقات الأرض، وينتفع بها وبتجاربه الثابتة فيها منهج علمي ثابت. وفي الوقت ذاته يعيش موصول الروح بالله، معلق القلب بمشيئته لا يستكثر عليها شيئاً، ولا يستبعد عليها شيئاً، ولا ييئس أمام ضغط الواقع أبداً. يعيش طليق التصور، غير محصور في قوالب حديدية، يضع فيها نفسه، ويتصور أن مشيئة الله –سبحانه- محصورة فيها! وهكذا لا يتبلد حسه، ولا يضمُر رجاؤه، ولا يعيش في إلف مكرور! والمسلم يأخذ بالأسباب، لأنه مأمور بالأخذ بها، ويعمل وفق السنة، لأنه مأمور بمراعاتها. لا لأنه يعتقد أن الأسباب والوسائل هي المنشئة للمسببات والنتائج. فهو يرد الأمر كله إلى خالق الأسباب، ويتعلق به وحده من وراء الأسباب، بعد أداء واجبه في الحركة والسعي والعمل واتخاذ الأسباب .. طاعة لأمر الله. وهكذا ينتفع المسلم بثبات السنن في بناء تجاربه العلمية وطرائقه العملية، في التعامل مع الكون وأسراره وطاقاته ومدخراته. فلا يفوته شيء من مزايا العلوم التجريبية والطرائق العملية. وهو في الوقت ذاته موصول القلب بالله، حي القلب بهذا الاتصال. موصول الضمير بالمشاعر الأدبية الأخلاقية، التي ترفع العمر وتباركه وتزكيه، وتسمو بالحياة الإنسانية إلى أقصى الكمال المقدر لها في الأرض، وفي حدود طاقة الإنسان. والتوازن بين مجال المشيئة الإلهية الطليقة، ومجال المشيئة الإنسانية المحدودة.. وهي القضية المشهورة في تاريخ الجدل في العالم كله، وفي المعتقدات كلها، وفي الفلسفات والوثنيات كذلك باسم قضية "القضاء والقدر" أو الجبر والاختيار. والإسلام يثبت للمشيئة الإلهية الطلاقة –كما أسلفنا- ويثبت لها الفاعلية التي لا فاعلية سواها، ولا معها – كما بينّا ذلك في خاصية الشمول وكما سيجئ في خاصية الإيجابية – وفي الوقت ذاته يثبت للمشيئة الإنسانية، الإيجابية – كما سنفصل ذلك في خاصية "الإيجابية" – ويجعل للإنسان الدور الأول في الأرض وخلافتها. وهو دور ضخم، يعطي الإنسان مركزاً ممتازاً في نظام الكون كله، ويمنحه مجالاً هائلاً للعمل والفاعلية والتأثير. ولكن في توازن تام مع الاعتقاد بطلاقة المشيئة الإلهية، وتفردها بالفاعلية الحقيقية، من وراء الأسباب الظاهرة. وذلك باعتبار أن النشاط الإنساني هو أحد هذه الأسباب الظاهرة. وباعتبار أن وجود الإنسان ابتداء، وإرادته وعمله، وحركته ونشاطه، داخل في نطاق المشيئة الطليقة، المحيطة بهذا الوجود وما فيه ومن فيه (على نحو ما سنفصل في خاصية "الإيجابية"). ويقرأ الإنسان في القرآن الكريم: (الحديد: 22) (التوبة: 51) (النساء: 78) (آل عمران: 154) (النساء: 78) ويقرأ كذلك في الجانب الآخر: (الرعد: 11) (الأنفال: 53) (الشمس: 7-10) (النساء: 111) ثم يقرأ بعد هذا وذلك: (المدثر: 54-56) (الإنسان: 29-30) (آل عمران: 165-166) يقرأ الإنسان أمثال هذه المجموعات المنوعة الثلاثة، فيدرك منها سعة مفهوم "القدر" في التصور الإسلامي، مع بيان المجال الذي تعمل فيه المشيئة الإنسانية في حدود هذا القدر المحيط. لقد ضربت الفلسفات والعقائد المحرفة في التيه –في هذه القضية- ولم تعد إلا بالحيرة والتخليط. بما في ذلك من خاضوا في هذه القضية من متكلمي المسلمين أنفسهم.. ذلك أنهم قلدوا منهج الفلسفة الإغريقية، أكثر مما تأثروا بالمنهج الإسلامي، في علاج هذه القضية. في التصور الإسلامي ليست هناك "مشكلة" في الحقيقة، حين يواجَه الأمر بمفهوم هذا التصور وإيحائه: إن قدر الله في الناس هو الذي ينشئ ويخلق كل ما ينشأ وما يُخلق من الأحداث والأشياء والأحياء .. وهو الذي يصّرف حياة الناس ويكيّفها. شأنهم في هذا شأن هذا الوجود كله.. كل شيء فيه مخلوق بقدر، وكل حركة تتم فيه بقدر .. ولكن قدر الله في الناس يتحقق من خلال إرادة الناس وعملهم في ذات أنفسهم، وما يحدثون فيها من تغييرات. (الرعد: 11) وكون مرد الأمر كله إلى المشيئة الإلهية المطلقة، لا يبطل هذا ولا يعطله. فالأمران يجيئان مجتمعين أحياناً في النص القرآني الواحد، كما رأينا في المجموعة الثالثة من هذه النماذج. ونحن إنما نفترض التعارض والتناقض، حين ننظر إلى القضية بتصور معين نصوغه من عند أنفسنا، عن حقيقة العلاقة بين المشيئة الكبرى، وحركة الإنسان في نطاقها. إلا أن المنهج الصحيح: هو ألا نستمد تصوراتنا في هذا الأمر من مقررات عقلية سابقة. بل أن نستمد من النصوص مقرراتنا العقلية في مثل هذه الموضوعات، وفيما تقصه علينا النصوص من شأن التقديرات الإلهية، في مجال الذي لا دليل لنا فيه، غير ما يطلعنا الله عليه منه .. فهو قال: وهو قال: (الأنعام: 125) وهو قال في الوقت نفسه: (فصلت: 46) فلا بد إذن – وفق تصور المسلم لإلهه وعدله في جزائه، وشمول مشيئته وقدره – من أن تكون حقيقة النسب بين مدلولات هذه النصوص في حساب الله، من شأنها أن تسمح للإنسان بقدر من الإيجابية في الاتجاه والعمل، يقوم عليه التكليف والجزاء، دون أن يتعارض هذا القدر مع مجال المشيئة الإلهية المطلقة، المحيطة بالناس والأشياء والأحداث. كيف؟ كيفيات فعل الله كلها، وكيفيات اتصال مشيئته بما يراد خلقه وإنشاؤه كلها.. ليس في مقدور العقل البشري إدراكها. والتصور الإسلامي يشير بتركها للعمل المطلق، والتدبير المطلق – مع الطمأنينة إلى تقدير الله وعدله ورحمته وفضله – فالتفكير البشري المحدود بحدود الزمان والمكان، وبالتأثرات الوقتية والذاتية، ليس هو الذي يدرك مثل هذه النّسَب وهذه الكيفيات، وليس هو الذي يحكم في العلاقات والارتباطات بين المشيئة الإلهية والنشاط الإنساني. إنما هذا كله متروك للإرادة المدبرة المحيطة والعلم المطلق الكامل .. متروك لله الذي يعلم حقيقة الإنسان، وتركيب كينونته، وطاقات فطرته وعمله الحقيقي، ومدى ما فيه من الاختيار، في نطاق المشيئة المحيطة. ومدى ما يترتب على هذا القدر من الاختيار من جزاء. وبهذا وحده يقع التوازن في التصور، والتوازن في الشعور، والاطمئنان إلى الحركة وفق منهج الله، والتطلع معها إلى حسن المصير. كذلك الحال فيما يسمونه: "مشكلة الشر والألم". ليست هناك مشكلة من وجهة النظر الإسلامية للأمر. إن الإسلام يقول: إن الدنيا دار ابتلاء وعمل. وإن الآخرة دار حساب وجزاء. والحياة في هذه الأرض مرحلة محدودة في الرحلة الطويلة. وما يقع للإنسان في هذه الأرض ليس خاتمة الحساب ولا نهاية المطاف. إنما هو مقدمة لها ما بعدها. واختبار تقدر له درجته هناك في دار الحساب. بهذا يحل الإسلام الجانب الشعوري من هذه المشكلة في الضمير البشري، ويكسب فيه الطمأنينة والاستقرار. فالألم الذي يلقاه الخيّر في هذه الأرض من جراء وجود الشر والنقص فيها، ليس هو كل نصيبه، فهناك النصيب الذي يعادل بين كفتي الميزان في شطري الرحلة، والشطران موصولان. تسيطر عليهما إرادة واحدة. ويحكم فيهما حكم واحد لا يند عن علمه شيء ولا يختل في ميزانه شيء! ثم هو يخاطب الحقيقة الشعورية التي يجدها الإنسان في أعمال ضميره … وهي أن شعور المؤمن الخيّر الذي يحقق منهج الله في حياته، ويجاهد لتحقيقه في حياة البشر، يجد – وهو يعاني الألم من جانب الشر والأشرار – شعوراً مكافئاً من الرضى والسعادة في هذه الدنيا، قبل أن يجد جزاءه المدخر له في الآخرة. شعوراً ناشئاً عن إحساسه بأنه يرضى الله فيما يفعل، وأن الله يرضى عن جهاده الخيّر … وهي شهادة من ذات البنية الحية، ومن طبيعة الفطرة البشرية، على أن الله جعل التكوين الفطري للإنسان، يجد جزاءه الحاضر في كفاح الشر والباطل، ونصرة الخير والحق، وأن له من التذاذة الكفاح في هذا الطريق، جزاء ذاتياً من كيانه الداخلي، في ذات اللحظة التي يتحمل فيها الألم، وهو يواجه الشر والباطل، ويكافحهما ما استطاع. وأن العوض كامن في ذات الفطرة وفي الاطمئنان إلى حسن الجزاء في الدنيا والآخرة. ولهذا الاطمئنان أثره حتى قبل يوم الحساب الختامي في دار الحساب. (الرعد: 28) (الزمر: 22) (فصلت: 30-32) (آل عمران: 139) (التوبة: 52) أما وجود الشر في ذاته، وما ينشأ عنه من الألم في كل صورة. ولماذا يوجد، والله قادر على ألا يوجده ابتداء، ولو شاء لهدى الناس جميعاً، ولو شاء لخلق الناس كلهم مهتدين ابتداء ؟؟؟ أما هذا السؤال فلا موضع له البتة في التصور الإسلامي! إن الله قادر طبعاً على تبديل فطرة الإنسان – عن طريق هذا الدين أو عن غير طريقه – أو خلقه بفطرة أخرى. ولكنه شاء أن يخلق الإنسان بهذه الفطرة وأن يخلق الكون على هذا النحو الذي نراه. وليس لأحد من خلقه أن يسأله لماذا شاء هذا؟ لأن أحداً من خلقه ليس إلهاً! وليس لديه العلم والإدراك – ولا إمكان العلم والإدراك –للنظام الكلي للكون. ولمقتضيات هذا النظام في طبيعة كل كائن في هذا الوجود، وللحكمة الكامنة في خلقه كل كائن بطبيعته التي خلق عليها. والله وحده هو الذي يعلم، لنه وحده هو الذي خلق الكون ومن فيه وما فيه، وهو وحده الذي يرى ما هو خير فينشئه ويبقيه، وهو وحده الذي يقدر أحسن وضع للخلق فينشئه فيه: (المؤمنون: 14) (طه: 50) (المائدة: 48) (البقرة: 251) (الأنبياء: 35) "ولماذا، -في هذا المقام- سؤال لا يسأله مؤمن جاد، ولا يسأله ملحد جاد .. المؤمن الجاد لا يسأله، لأنه أكثر أدباً مع الله – الذي يعرفه من التصور الإسلامي بذاته وصفاته – ولأنه أكثر معرفة بمدى إدراكه البشري الذي لم يهيأ للعمل في هذا المجال .. والملحد الجاد لا يسأله كذلك. لأنه لا يعترف بالله ابتداء فإن اعترف بألوهيته عرف معها أن هذا شأنه –سبحانه- وأن هذا مقتضى ألوهيته، وأن اختياره هذا هو الخير قطعاً. ولكنه سؤال يسأله مكابر لجوج، أو مائع هازل .. ومن ثم لا يجوز المضي معه في محاولة تبرير هذا الواقع بمعايير عقلية بشرية، لأنه بطبيعته أكبر من مستوى العقل البشري، وأوسع من المجال الذي يعمل فيه العقل. فإدراك أسباب هذا الواقع يقتضي أن يكون الإنسان إلهاً. ولن يكون الإنسان إلهاً. ولا بد له من أن يسلّم بهذه البديهية الواقعية، ويسلم بمقتضياتها كذلك. فأما الباعث على الشر، وتعرض الإنسان لضغطه- وهو ما يدفع إلى الشر والضلال والخطيئة – فالإسلام يقرر أنه أضعف من أن يكون مسلطاً على الإنسان تسليط قهر وغلبة.. إنما هو تسليط امتحان وابتلاء، فهو يتمثل في المعركة بين الإنسان والشيطان. ودون الشيطان والغلبة في هذه المعركة حاجز قوي من الإيمان وذكر الله والاستعاذة به، واللياذ بكنفه. (الحجر: 39-42) (طه: 123-126) (إبراهيم: 22) (النحل: 98-100) (النساء: 76) ثم إنه يبقى بعد ذلك أنه إذا كان الله –سبحانه- هو الذي يخلق كل إنسان. باستعدادات معينة، هي التي تجعله يميل إلى الخير والهدى، أو يميل إلى الشر والضلال، فكيف يعذب الله الشرير الضال، ويكافئ الخيّر المهتدي، في الدنيا أو في الآخرة سواء؟ وهو سؤال خادع – في صورته هذه- يقابله ويصححه ما يقرره القرآن من أن الله –سبحانه- خلق الإنسان ابتداء في أحسن تقويم، وأنه لا يزول عن مكانه هذا إلا بغفلته عن الله. وأنه مبتلي بالخير والشر. وأن فيه الاستعداد للترجيح والاختيار –مع الاستعانة بالله، الذي يعين من يجاهد لرضاه! (التين: 4-6) (الشمس: 7-10) (الإنسان: 2-3) (الليل: 4-10) (العنكبوت: 69) ويقابله كذلك ويصححه ما سق تقريره من أن قدر الله في الناس يتحقق فيهم من خلال إرادتهم في ذات أنفسهم، وفي الحياة من حولهم. ويرد الأمر في النهاية إلى ما أسلفنا من الحديث عن قدر الله في مطلع هذه الفقرة. على أن التصور الإسلامي يعلّم المسلم أن الله فرض عليه تكاليف واضحة، ونهاه عن أمور كذلك واضحة. وهذه وتلك محددة لا شبهة فيها ولا غبش. مكشوفة للعلم الإنساني لا غيب فيها ولا مجهول. وهذه وتلك هي التي يحاسبه عليها. أما أمر الغيب والقدر وما هو مخبوء وراء النظر، فأمور لم يكلف الله المسلم بالبحث فيها، ولم يأمره بشيء يتعلق بها، غير الاعتقاد بقدر الله خيره وشره. ومن ثم فطريق المسلم الواضح محدد مستقيم .. طريقه أن ينهض بالتكاليف الواضحة –ما استطاع- وأن يجتنب النواهي المحددة كما نُهي. وأن يشتغل بمعرفة ما أمر الله به، وما نهى الله عنه. ولا يبحث في شيء وراءهما من أمر الغيب المحجوب عن إدراكه المحدود. وما كان الله –سبحانه- ليكلفه شيئاً يعلم أن لا طاقة له به، أو أنه ممنوع بمانع قهري عن النهوض به. وما كان الله –سبحانه- لينهاه عن شيء، يعلم أن لا طاقة له بالامتناع عنه، أو أنه مدفوع بدافع قهري لا يقاوم لإتيانه! (الأعراف: 28-29) وما يؤمن بالله من لا يؤمن بأن الله لا يكلفه بشيء فوق طاقته، ولا ينهاه عن شيء ليس في مقدوره الانتهاء عنه .. وفي هذه الكفاية. بهذا يتم التوازن في الاعتقاد والشعور، كما يتم التوازن في النشاط والحركة. فيثير التصور الإسلامي في الضمير الرغبة في الخير والاستقامة، وفي الحركة والفاعلية. مع الاستعانة بالله الذي بيده كل شيء. وبهذا يقطع التعطيل والإرجاء والسلبية، والإحالة على مشيئة الله في المعصية، أو الشلل والجمود والسلب.. وقد علم أن الله لا يرضى لعباده الكفر. وأنه لا يحب أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا. ولا يرضى أن يترك المنكر بلا جهاد، ولا أن يترك الحق بلا نصرة، ولا أن تترك الأرض بلا خلافة. وقد علم أن الإنسان في هذه الدنيا للابتلاء بالخير والشر، وللامتحان في كل حركة وكل حالة. وأنه مجزي على الحسنة وعلى السيئة في دار الحساب والجزاء.. وأنه كذلك مستخلف في هذه الأرض، وأن له مكانه في هذا الكون، وله دوره في ما يقع في هذه الأرض من تغيير وتطوير. وأنه إما ناهض بهذه الخلافة – وفق منهج الله- فمثاب. وإما ناكل التبعة فمعاقب. ولو كان النكول خوفاً من التبعة، وفراراً من الابتلاء! والتوازن بين عبودية الإنسان المطلقة لله، ومقام الإنسان الكريم في الكون.. وقد سلم التصور الإسلامي في هذا الصدد من كل الهزات والأرجحات التي تعاورت المذاهب والمعتقدات والتصورات .. ما بين تأليه الإنسان في صوره الكثيرة. وتحقير الإنسان إلى حد الزراية والمهانة. إن الإسلام يبدأ فيفصل فصلاً تاماً كاملاً بين حقيقة الألوهية، وحقيقة العبودية. وبين مقام الألوهية ومقام العبودية. وبين خصائص الألوهية وخصائص العبودية. بحيث لا تقوم شبهة أو غبش حول هذا الفصل الحاسم الجازم: الله والله و والله و و و والإنسان عبد لله ككل مخلوق في هذا الوجود. عبد لا يشارك الله في حقيقة ولا خاصية.. وليس كما تقول الكنيسة عن المسيح –عليه السلام- إن له طبيعة لاهوتية صافية، أو لاهوتية ناسوتية، على اختلاف المذاهب والتصورات. (الزخرف: 59) (النساء: 172) (مريم: 93) ولكن الإنسان – بعبوديته هذه لله – كريم على الله. فيه نفخة من روح الله. مكرم في الكون، حتى ليأمر الله الملائكة – وهم عباده المقربون – أن يسجدوا له سجود التكريم. (الحجر: 28-30) وهو مستخلف في هذه الأرض، مسلط على كل ما فيها، مسخر له الأرض وما فيها ومحسوب حسابه في تصميم هذا الكون قبل أن يكون: (البقرة: 30-33) (النحل: 15) (الحج: 65) والإنسان –كما أسلفنا- يكون في أرفع مقاماته، وفي خير حالاته، حين يحقق مقام العبودية لله. إذ أنه –في هذه الحالة- يكون في أقوم حالات فطرته، وأحسن حالات كماله، وأصدق حالات وجوده. ومقام العبودية لله هو الذي وصف به رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في مقام الوحي ومقام الإسراء والمعراج –كما ذكرنا من قبل- وهو الذي جعله الله غاية الوجود الإنساني وهو يقول: كما أن قيام الناس في هذا المقام، هو الذي يعصمهم جميعاً من عبودية العبيد للعبيد، وهو الذي يحفظ لهم كراماتهم جميعاً، على اختلاف مراكزهم الدنيوية، وهو الذي يرفع جباههم فلا تنحني إلا لله، وهو الذي يكفيهم –في الوقت ذاته- عن الاستكبار في الأرض بغير الحق، والعلو فيها والفساد، ويستجيش في قلوبهم التقوى للمولى الواحد، الذي يتساوى أمامه العبيد. ويرفض أن يدعى أحد العبيد لنفسه خصائص الألوهية، فيشرع للناس في شؤون حياتهم بغير سلطان من الله، ويجعل ذاته مصدر السلطان، وإرادته شريعة لبني الإنسان! ومن ثم فإنه لا تعارض –في التصور الإسلامي- بين رفعة الإنسان وعظمته وكرامته وفاعليته، وبين عبوديته لله –سبحانه- وتفرد الله بالألوهية وبخصائصها جميعاً. ولا حاجة إذن – عندما يراد رفع الإنسان وتكريمه – أن تخلع عنه عبوديته لله، أو تضاف إلى ناسوتيته لاهوتية ليست له، كما احتاج رؤساء الكنيسة والمجامع المقدسة أن يفعلوا، ليعظموا عيسى –عليه السلام- ويكبِّروه! (المائدة: 72-75) (المائدة: 116-118) (النساء: 172) كذلك لا حاجة إلى تصغير الله –سبحانه وتعالى- كلما أريد تعظيم الإنسان، وإعلان رفعة مقامه في هذه الأرض، وسيطرته وفاعليته. وكلما فتح الله للإنسان فتحاً في أسرار المادة. وكلما سخر له طاقة من طاقات الكون! إن الله –سبحانه- والإنسان ليسا كفوين ولا ندين! ولا متصارعين! ولا يرجح أحدهما ليشيل الآخر! ولا يغلب أحدهما ليهزم الآخر! لقد تركت الأساطير الإغريقية، والأساطير العبرية، هذا التصور القبيح التافه في أذهان الأوروبيين. فظل يسيطر على تصوراتهم، حتى بعد ما دخلوا في المسيحية! الأسطورة الإغريقية التي تصور كبير الآلهة "زيوس" غاضباً على الإله "برومثيوس" لأنه سرق سر النار المقدسة (سر المعرفة) وأعطاه للإنسان، وراء ظهر كبير الآلهة. الذي لم يكن يريد للإنسان أن يعرف، لئلا يرتفع مقامه فيهبط مقام كبير الآلهة، ويهبط معه مقام "الآلهة"! ومن ثم أسلمه إلى أفظع انتقام وحشى رعيب! والأسطورة العبرانية التي تصور الإله خائفاً من أن يأكل الإنسان من شجرة الحياة، - بعد ما أكل من شجرة المعرفة – فيصبح كواحد من الآلهة! ومن ثم يطرد الإنسان من الجنة، ويقيم دونه شجرة الحياة حراساً شداداً ولهيب سيف متقلب! والأسطورة التي أطلقها "نيتشه" وهو يتخبط تخبط الصرع في كتابه: "هكذا قال زرادشت" ليعلن "موت الإله" ومولد الإنسان الأعلى (السوبرمان!) إن الإنسان – في الإسلام- يأخذ مكانه الحقيقي دائماً في هدوء، وفي هوادة، وفي طمأنينة .. إنه عبد الله. وإنه بهذه العبودية أكرم خلق الله. وهو في مقام العبودية في أرفع مقام. وفي أسعد مقام. وفي أصلح مقام. ويبقى أن نأخذ –من هذه الخاصية- أن التصورات الأوربية التي كمنت فيها تلك التصورات الأسطورية المختلفة، ودخلت في صميمها، بل دخلت في مناهج تفكيرها .. أن هذه التصورات الأوربية، وما قام عليها من مناهج التفكير، وما نتج منها من مذاهب وأفكار.. كلها تصطدم –اصطداماً ظاهراً أو خفياً- مع التصور الإسلامي، ومناهج الفكر الإسلامية، وأن أي استعارة من تلك التصورات، أو مناهج التفكير، أو نتاجها من المذاهب والأفكار، تحمل في صميمها عداء طبيعياً للتصور الإسلامي، وللفكر الإسلامي، ولا تصلح بتاتاً للاقتباس منها أو الاستعانة بها .. بل هي كالسم الذي يتلف الأنسجة، ويؤذي الأعضاء، ويقتل في النهاية إذا كثر المقدار!!! والتوازن في علاقة العبد بربه، بين موحيات الخوف والرهبة والاستهوال، وموحيات الأمن والطمأنينة والأنس.. فصفات الله الفاعلة في الكون، وفي حياة الناس والأحياء، تجمع بين هذا الإيحاء وذاك. في توازن تام. ويقرأ المسلم في كتاب الله الكريم من صفات ربه ما يخلع القلوب، ويزلزل الفرائص، ويهز الكيان، من مثل قوله تعالى: (الأنفال: 24) (غافر: 19) (ق: 16) (البقرة: 235) (البقرة: 196) (القلم: 44-45) (البروج: 12) (آل عمران: 4) (هود: 102) (المزمل: 11-14) وصور العذاب في مشاهد القيامة رعيبة رعيبة. ويقرأ المسلم كذلك من صفات ربه، ما يملأ قلبه طمأنينة وراحة، وروحه أنساً وقرباً، ونفسه رجاء وأملا. من مثل قوله تعالى: (البقرة: 186) (النمل: 62) (البقرة: 143) (النساء: 28) (النساء: 147) (مريم: 96) (البروج: 14) (البقرة: 207) (الكهف: 2-3) وصور النعيم في مشاهد القيامة رخية رخية! ومن هذا وذاك يقع التوازن في الضمير بين الخوف والطمع، والرهبة والأنس، والفزع والطمأنينة.. ويسير الإنسان في حياته، يقطع الطريق إلى الله، ثابت الخطو، مفتوح العين، حي القلب، موصول الأمل. حذراً من المزالق، صاعداً أبداً إلى الأفق الوضئ. لا يستهتر ولا يستهين، ولا يغفل ولا ينسى. وهو في الوقت ذاته شاعر برعاية الله وعونه، ورحمة الله وفضله، وأن الله لا يريد به السوء، ولا يود له العنت، ولا يوقعه في الخطيئة ليتشفى بالانتقام منه .. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. وحين توازن بين هذا التصور الإغريق لكبير آلهتهمن القاسي الحسود الشهوان العربيد، المضطغن الحقود. أو تصور الإسرائيليين المنحرف لإلهتهم الغيور المتعصب، البطاش المتهور. أو تصور أرسطو لإلهة المترفع الذي لا يعني نفسه بأمر الخلق على الإطلاق، ولا يفكر إلا في ذاته، لأنه أشرف الذوات، ولا يليق بالإله أن يكفر إلا في أشرف ذات! أو تصور الماديين لإلههم "الطبيعة" الصماء العمياء الخرساء! .. عندئذ تبدو قيمة هذا الجانب المتوازن في التصور الإسلامي، وأثره الواقعي في حياة البشر، وأثره كذلك في منهج حياتهم وأخلاقهم ونظامهم العملي. (وسيأتي شيء من تفصيل هذا الإجمال في الفصل التالي عن خاصية: الإيجابية). والتوازن بين مصادر المعرفة: من وراء الغيب المحجوب، ومن صفحة الكون المشهود، أو بتعبير آخر: من الوحي والنص، ومن الكون والحياة. وقد رأينا في مطلع هذا البحث كيف تقلبت التصورات في أوربة، بين اتخاذ النص (أو الوحي) –وحده- مصدراً للمعرفة، واتخاذ العقل –وحده- مصدراً، واتخاذ الطبيعة –وحدها- مصدراً كذلك! وتعسف كل فريق في "تأليه" مصدره، ونفي المصادر الأخرى إطلاقاً، وإلغاء وجودها إلغاء! فأما الإسلام في شموله، وفي توازنه، وفي اعتباره لجميع "الحقائق" الواقعة، دون تعسف، ودون هوى، ودون شهوة، ودون غرض، ودون جهل، ودون قصور … أما الإسلام – في طمأنينته إلى الحق، الكامل الشامل- فلم يغفل مصدراً واحداً من مصادر المعرفة لم يعطه اعتباره، ولم يضعه في مكانه الذي يستحقه، ودرجته التي هي له في الحقيقة، في دقة وتوازن وطمأنينة. فالإسلام –كما سبق- يرد الأمر كله ابتداء إلى الله وإرادته وتدبيره، يرد الخلق كله إلى إرادة الله الواحد – ومن الخلق هذا الكون وما فيه، وهذا الإنسان وعقله ومداركه- ومن ثم لا يجد تناقضاً في أن يكون للكون – أو للطبيعة كما يسميها الغربيون- وأن يكون للحياة وأوضاعها – وفيها الاقتصاد إله كارل ماركس – دور في إمداد "الإنسان" بالمعرفة عن طريق "العقل" وسائر المدارك المودعة فيه باعتبار الجميع من صنع الله .. فهي من عنده. كما أن الوحي من عنده كذلك. نعم إن الإسلام يعتبر مصدر الوحي هو المصدر الصادق، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا يخضع للهوى، ولا يتأثر بهن ومن ثم فهو أعلى المصادر. ولكنه في الوقت ذاته لا يلغي العقل –عندئذ- ولا يلغي المؤثرات والمعارف التي تتلقاها الكينونة الإنسانية كلها، مما حولها في الكون.. فالكون كذلك كتاب الله المفتوح الذي يصب المعرفة في الكينونة الإنسانية – كما يصبها الوحي – مع فارق واحد: هو أن المعرفة التي يتلقاها الإنسان بمداركه من هذا الكون، قابلة للخطأ والصواب – بما أنها من عمل الإنسان – أما ما يتلقاه من الوحي فهو الحق اليقين .. لقد خلق الله هذا الإنسان متوافقاً في فطرته وتكوينه مع هذا الكون، ومع سائر الأحياء. فكلهم من خلق الله، وكلهم يتلقى من الله، وكلهم يتمتع بهداه. (طه: 50) (الأعلى: 1-3) (الذاريات: 49) (الأنعام: 38) (طه: 53) (طه: 55) (يس: 36) (الشورى: 11) وفي التوافق والتناسق والتعاون بين خلق الله جميعاً – وفيهم الإنسان- ترد نصوص قرآنية كثيرة. ذات إيحاء قوي بالوحدة والتضامن والتناسق في طبيعة التكوين وفي الاتجاه العام، نذكر منها القليل: (النبأ:6-16) (النازعات: 27-33) (عبس: 24-32) (النحل: 65-69) (النحل: 80-81) وأمثال هذه النصوص كثير، سنفصل الحديث عنه عند الكلام عن حقيقة الكون وحقيقة الإنسان في التصور الإسلامي.. والمهم الآن أن نقول: إن الإسلام بناء على تقريره أن هناك اتفاقاً وتناسقاً بين الكون والإنسان، جعل الكون وجعل الحياة والأحياء من بين مصادر المعرفة لهذا الإنسان – أو عن كتاب الكون المفتوح – وعن الإنسان ذاته. فهو مصدر من مصادر التأمل والمعرفة لذاته! فنجد في التوجيه إلى المصدر الأول الأصيل الصادق، المهيمن على كل مصادر المعرفة الأخرى .. أمثال هذه النصوص: (الإسراء: 9) (الجاثية: 18) (يوسف: 2-3) (البقرة: 38-39) (البقرة: 93) ثم نجد في التوجيه إلى التلقي والمعرفة من كتاب الكون المفتوح، ومن كتاب النفس المكنون، الشيء الكثير .. الكثير: (الذاريات: 20-21) (فصلت: 53) (الغاشية: 17-21) { (النحل: 79) (البقرة: 164) وفي التوجيه إلى استخدام العقل للمعرفة، إما بتدبر آيات الله في الكون، وإما بتدبر حقائق الوحي وحقائق الحياة، نجد كذلك في القرآن نصوصاً شتى: (سبأ: 46) (النساء: 82) (الحج: 46) (آل عمران: 190-191) (النحل: 78) وهكذا تتوازن هذه المصادر .. كل بحسبه .. وتتناسق في إمداد الكائن الإنساني بالمعرفة. ويتوازن التصور الإسلامي، فلا يشط ولا يضطرب ولا يتأرجح بين هذه المصادر، ولا يؤلّه ما ليس منها بإله! ومما يلاحظ بوضوح في منهج التربية القرآني كثرة توجيه الإدراك البشري إلى ما في الكون، وما في الأنفس، من أمارات وآيات، وتوجيه هذا الإدراك إلى مصاحبة صنعة الله في الأنفس والآفاق. ذلك أن هذه المصاحبة –فوق أنها تنبه الإدراك البشري إلى معرفة الصانع من صنعته، وإجلاله بإدراك عظمته من عظمة صنعه، وحبه بإدراك عظمة أنعمه – فهي في الوقت ذاته تطبع الإدراك الإنساني بخصائص تلك الصنعة: من دقة وتناسق وانتظام، لا خلل فيه ولا تصادم ولا تفاوت. كما تطبعه بموحياتها كذلك من سنن وحقائق ومقررات .. وليس بالقليل مثلاً ان ينطبع في حس الإنسان وشعوره من متابعة التغير المستمر في أحوال هذا الكون، وفي أحوال البشر، وفي أحوال النفس، أن الدوام لله وحده، الذي يغير ولا يتغير. وأن كل شيء حائل أو زائل، إلا الحي الذي لا يموت. الصمد الثابت المقصود.. وليس بالقليل مثلاً أن ينطبع في حس الإنسان وشعوره من ملاحظة ثبات السنن التي تحكم ذلك التغير، وثبات الناموس الذي يتم به التبدل والتحور، أن الأمور لا تمضي جزافاً، وأن الحياة لم توجد سدى، وأن الإنسان غير متروك لقى. وإنما هو التدبير والتقدير، والابتلاء والجزاء، والعدل الصارم الدقيق في تقدير المصير.. وهكذا .. وهكذا .. مما سنذكر منه الكثير. ومن ثم يكثر التوجيه إلى هذه المصادر، والظاهرة في الكون والمكنونة في النفس، لتلقي المعرفة من كتاب الله المفتوح، كتلقي المعرفة من كتاب الله المقروء. في تناسق وتوازن، يجمع ين مصادر المعرفة كلها، في غير تصادم ولا تعارض، وفي غير تأليه ولا تحقير، وفي غير خصومات صغيرة، كتلك الخصومات التي رأينا أمثلة منها في تاريخ الفكر الغربي الصغير! ومن ثم لا يقتضي قيام الوحي – كمصدر أساسي للمعرفة – إلغاء الإدراك البشري، كما لا يقتضي وجود الكون إلغاء هذا العقل، أو إلغاء الله – جل وعلا وتنزه عن التصورات المطموسة البائسة، التي يتعبد لها الغربيون! وعبيد الغربيين! والتوازن بين فاعلية "الإنسان" وفاعلية الكون. وبين مقام الإنسان ومقام الكون. وقد سلم التصور الإسلامي في هذه النقطة من جميع الأرجحات، وجميع التقلبات التي صاحبت الفكر البشري، كلما انحرف عن منهج الله. وتتضح استقامة التصور الإسلامي تجاه الكون والإنسان، حين يراجع ركام الفلسفات والتصورات والمعتقدات المختلفة. لقد كان أفلاطون يضع المادة في الدرك الأسفل من القيمة والاعتبار. "فالوجود في مذهب أفلاطون طبقتان متقابلتان: طبقة العقل المطلق، وطبقة المادة أو "الهيولي". والقدرة كلها من العقل المطلق، والعجز كله من الهيولي. وبين ذلك كائنات على درجات تعلو بقدر ما تأخذ من العقل، وتسفل بمقدار ما تأخذ من الهيولي. "فالهيولي مقاومة للعقل المجرد، وليست موجدة بمشيئته من العدم" وأفلوطين –في الأفلاطونية الحديثة- يجعل المادة في الدرك نفسه. فالواحد الحد خلق العقل، والعقل خلق الروح، والروح خلقت ما دونها من الموجودات، على الترتيب الذي ينحدر طوراً دون طور إلى عالم الهيولي، أو عالم المادة والفساد" والنصرانية –كما صنعتها الكنيسة- اعتبرت الشر كله ممثلاً في عالم الجسد – أي عالم المادة – الخير كله ممثلاً في عالم الروح. ومن ثم اقتضى الأمر احتقار كل ما هو مادي، والهرب منه للنجاة من الشر والفساد.. وكذلك فعلت الهندوكية من قبل في مذهب براهما .. "وبينما عالم المادة ينبذ هذا النبذ في بعض الفلسفات والمعتقدات، يقوم في القرن التاسع عشر، من يجعل من "الطبيعة" إلهاً، ويجعل من العقل البشري مخلوقاً من مخلوقات هذا الإله! كما فعل "كومت" و "نيتشه" من زعماء المذهب الوضعي، ومن يجعل جانباً من عالم المادة – وهو الاقتصاد – إلها، يخلق العقول والأديان والفلسفات والآداب والأخلاق.. كما فعل كارل ماركس! ويحط من قيمة الإنسان تجاه هذا الإله، فيجعله عاملاً سلبياً لا يقدم ولا يؤخر، وإنما يتلقى فقط ويتأثر! بين هذه الشخصيات المتأرجحة، وبين هذا الغلو من هنا ومن هناك يقف التصور الإسلامي على قاعدة الحقيقة المستقرة الثابتة.. الله هو الخالق المبدع المهيمن المدبر .. والكون والإنسان من إبداع الله. وبينهما من التفاعل، وبينهما من التناسق، ما يجعل لكل منهما دوراً في حياة الآخر .. والإنسان هو الأكرم، وهو الأكثر فاعلية وإيجابية. وهو المسلط على المادة، يبدع فيها وينشئ، ويغيّر فيها ويطوّر، ويظهر من أسرارها ما أودعه الله، ويتلقى من هذه الأسرار ما يؤدي إلى العظة والاعتبار. وتكريم الوجود الإنساني – مع عدم احتقار الوجود الكوني- يكفل لهذا الإنسان مقامه وكرامته، ويجعل حياته ومقوّماته أكرم من أن تمسّ في سبيل توفير أية قيمة مادية أخرى. وذلك مع عدم الإخلال بالقيم المادية وبالإبداع في عالم المادة. وهناك ألوان شتى من هذا التوازن في التصور الإسلامي، لا نملك تتبعها وعرضها هنا بالتفصيل – ولا حتى مجرد الإشارة – إنما نحن نثبت هذه النماذج، لتكون هي الإشارة التي يتبعها الناظر في هذا المنهج، إلى نهاية الطريق…
والخاصية الخامسة البارزة في التصور الإسلامي هي .. الإيجابية .. الإيجابية الفاعلة في علاقة الله –سبحانه- بالكون والحياة والإنسان. والإيجابية الفاعلة كذلك من ناحية الإنسان ذاته. في حدود المجال الإنساني .. كما أشرنا إلى ذلك من قبل إشارات مجملة.. إن الصفات الإلهية في التصور الإسلامي ليست صفات سلبية. والكمال الإلهي ليس في الصورة السلبية التي جالت في تصور أرسطو. وليست مقصورة على بعض جوانب الخلق والتدبير كما تصور الفرس في صفات "هرمز" إله النور والخير واختصاصاته وصفات "أهرمان" إله الظلام والشر واختصاصاته. وليست محدودة بدرجة من درجات الخلق كتصور أفلوطين. وليست محدودة بحدود شعب كتصورات بني إسرائيل. وليست مختلطة أو متلبسة بإرادة كينونة أخرى، كبعض تصورات الفرق المسيحية. وليست معدومة على الإطلاق، كما تقول المذاهب المادية، التي تنفي وجود الإله الحي المريد … إلى آخر هذا الركام.. ولعله يحسن قبل أن نعرض التصور الإسلامي الواضح الصريح المريح، أن نثبت مجملاً سريعاً لهذه التصورات التي أشرنا إليها. أو لهذا الركام، الذي أشرنا إلى شيء منه في أوائل هذا الكتاب وفي ثناياه: "مذهب أرسطو في الإله أنه كائن أزلي أبدي، مطلق الكمال، لا أول له ولا آخر، ولا عمل له ولا إرادة! مذ كان العمل طلباً لشيء. والله غني عن كل طلب. وقد كانت الإرادة اختياراً بين أمرين، والله قد اجتمع عنده الأصلح الأفضل من كل كمال، فلا حاجة إلى الاختيار بين صالح وغير صالح، ولا بين فاضل ومفضول. وليس مما يناسب الإله –في رأي أرسطو- أن يبتدئ العمل في زمان، لأنه أيدي سرمدي، لا يطرأ عليه طارئ يدعوه إلى العمل، ولا يستجد عليه من جديد في وجوده المطلق بلا أول ولا آخر، ولا جديد ولا قديم. وكل ما يناسب كماله فهو السعادة بنعمة بقائه، التي لا بغية وراءها، ولا نعمة فوقها ولا دونها، ولا تخرج من نطاقها عناية تعنيه! "فالإله الكامل المطلق الكمال، لا يعنيه أن يخلق العالم، أو يخلق مادته الأولى –وهي الهيولي- ولكن هذه "الهيولي" قابلة للوجود، يخرجها من القوة إلى الفعل شوقها إلى الوجود، الذي يفيض عليها من قبل الإله، فيدفعها هذا الشوق إلى الوجود، ثم يدفعها من النقص إلى الكمال المستطاع في حدودها، فتتحرك وتعمل، بما فيها من الشوق والقابلية، ولا يقال عنها: إنها من خلقة الله، إلا أن تكون الخلقة على هذا الاعتبار". والفرس كانوا يعتقدون بالثنوية، ويجعلون للخير إلهاً هو "هرمز". قدرته واختصاصه مقصوران على عالم النور والخير. ويجعلون للشر إلهاً هو "أهرمان" قدرته واختصاصه مقصوران على عالم الظلام والشر. وهما أخوان مولودان لإله قديم اسمه "زروان"! "وزعموا أن مملكة النور ومملكة الظلام كانتا قبل الخليقة منفصلتين، وأن هرمز طفق في مملكته يخلق عناصر الخير والرحمة. وأهرمان غافل عنه في قراره السحيق. فلما نظر ذات يوم ليستطلع خبر أخيه، راعه اللمعان من جانب مملكة أخيه، فأشفق على نفسه من العاقبة. وعلم أن النور وشيك أن ينتشر ويستفيض، فلا يترك له ملاذاً يعتصم بهن ويضمن فيه البقاء. فثار، وثارت معه خلائق الظلام – وهي شياطين الشر والفساد- فأحبطت سعي هرمز! وملأت الكون بالخبائث والأرزاء.. الخ" 0واحتدمت المعركة وما تزال). أما "أفلوطين" الذي عاش في السنوات الأولى من القرن الثالث للميلاد .. فإنه يغلو فيما يراه تنزيها لإلهه الأحد، حتى يتجاوز كل معقول. فإذا كان أرسطو يرى أن من كمال إلهه ألا يشعر بغير ذاته، وألا يفكر إلا في ذاته لا يفكر إلا في أشرف الموجودات. وذاته هي أشرف الموجودات. وأنه لا يعلم الموجودات لأنها أقل من أن يعلمها.. إذا كان تنزيه أرسطو لإلهه وقف به عند هذا الحد، فإن أفلوطين راح يزعم أن من كمال إلهه الأحد أنه لا يشعر بذاته كذلك! لأنه يتنزه عن ذلك الشعور! "وبديه أن المذهب يقتضي وسائط متعددة لربط الصلة بين هذا الإله "الأحد" المطلق الصفاء، وبن المخلوقات العلوية، وهذه المخلوقات السفلية. ولا سيما خلائق الحيوان المركب في الأجساد. "وهكذا لزم أفلوطين أن يقول: إن الواحد خلق العقل. وإن العقل خلق الروح. وإن الروح خلقت مادونها من الموجودات. على الترتيب الذي ينحدر طوراً دون طور، إلى عالم الهيولي، أو علم المادة والفساد!" . ومن ثم ينحصر اختصاص الإله – عند أفلوطين- في خلق العقل.. ثم تنتهي مهمته عند ذاك! أما إله بني إسرائيل "يهوا" – كما ترسمه تصوراتهم المنحرفة – فهو إله إسرائيل الخاص! الذي يغار من عبادة شعب إسرائيل للآلهة الغريبة، فيثور ويغضب ويحطم وينتقم. حتى إذا عاد الشعب إليه رضى واستراح. وكف عن النقمة والتدمير. وندم على ما فعل بشعبه المختار! والتصورات الكنسية عن طبيعة المسيح وإرادته، وتلبسهما باللاهوتية، سبق أن أشرنا إليها في فصل "تيه وركام"، وهي تجعل إرادة الله متلبسة أو متجسمة في إرادة المسيح .. إلى أخر هذا الركام! وكذلك أشرنا إلى تصورات الوضعيين الماديين المختلفة بما فيه الكفاية. فيرجع إليها هناك. والآن ننتقل من هذا الركام المتناثر إلى التصور الإسلامي المستقيم الواضح المريح: إن الإنسان – في التصور الإسلامي- يتعامل مع إله موجود. خالق. مريد. مدبر. مهيمن. قادر. فعال لما يريد.. كامل الإيجابية والفاعلية.. إليه يرجع الأمر كله. وإلى إرادته يرجع خلق هذا الكون ابتداء، وكل انبثاقة فيه بعد ذلك، وكل حركة. وكل تغير وكل تطور. ولا يتم في هذا الكون شيء إلا بإرادته وعلمه وتقديره وتدبيره. وهو –سبحانه- مباشر بإرادته وعلمه وتدبيره لكل عبد من عباده، في كل حال من أحواله ولكل حي ولكل شيء وفي هذا الوجود كذلك. ويحفل القرآن الكريم بتقرير هذه الحقيقة الأساسية الكبيرة في التصور الإسلامي، بكل صورها وأشكالها، ويهتم بعرض مظاهرها في كل جانب من جوانب الكون، وفي كل صورة من صورها المتجددة التي لا تحصى: (الأعراف: 54) (فاطر: 44) (آل عمران: 26-27) (الأنعام: 18) (الرعد: 8-13) (الرعد: 39) (الأنعام: 17) (الشورى: 49 ،50) (المجادلة: 7) واستقرار هذه الحقيقة في ضمير الإنسان وفي حياته، يتوقف عليه كل شيء في أمر العقيدة. كما أنه هو الذي يمد الحياة البشرية بكافة المشاعر الأخلاقية. بواعثها وموازينها، والسلطان القائم عليها (وسيأتي تفصيل ذلك عند الكلام عن حقيقة الألوهية في القسم الثاني من هذا الكتاب). إن هذه الإيجابية في علاقة الله –سبحانه- بخلائقه كلها، هي مفرق الطريق بين العقيدة الجدية المؤثرة، والعقيدة الصورية السلبية. وشمول هذه الإيجابية وتوحدها، هو مفرق الطريق كذلك، بين التجمع في الكينونة الإنسانية والنشاط الإنساني، والتمزق في هذه الكينونة ونشاطها الحيوي. وتصور الإنسان لإلهه، وتعلق صفاته بالحياة الإنسانية، هو الذي يحدد قيمة هذا الإله في نفسه، كما يحدد نوع استجابته لهذا الإله! وفرق كبير بين الإنسان الذي يتصور أن إلهه لا يحفل به، ولا يحس بوجوده – أو لا يعلم بوجوده أصلاً كما يقول بعض الفلاسفة! – والإنسان الذي يحس ويعلم أن الله هو خالقه ورازقه، ومالك أمره كله في الدنيا والآخرة.. وفرق كذلك بين الذي يتعامل مع إلهين متنازعين – كما يقول الفرس- أو مع آلهة متفرقة كما تقول الوثنيات الأخرى، والذي يتعامل مع إله واحد. له إرادة واحدة، ومنهج واحد. يعلم عباده على وجه الضبط والتحديد ما يريده منهم فيرضى، وما يكرهه منهم فيسخط! وفرق كذلك بين الذي يتعامل مع إله شهواني. متعجرف. ظالم. متهور. متقلب الأهواء كإله الإغريق –بزعمهم-: "زيوس" أو "جوبيتير" الذي كانوا يصورونه "حقوداً. لدوداً. مشغولاً بشهوات الطعام والغرام. لا يبالي من شؤون الأرباب والمخلوقات ما يعينه على حفظ سلطانه، والتمادي في طغيانه. وكان يغضب على "اسقولاب" إله الطب –بزعمهم- لأنه يداوي المرضى، فيحرمه جباية الضريبة على أرواح الموتى الذين ينتقلون من ظهر الأرض إلى باطن الهاوية! وكان يغضب على "برومثيوس" إله المعرفة والصناعة –بزعمهم- لأنه يعلّم "الإنسان" ان يستخدما لنار في الصناعة، وأن يتخذ من المعرفة قوة تضارع قوة الأرباب. وقد حكم عليه بالعقاب الدائم، فلم يقنع بموته، ولا بإقصائه عن حظيرة الآلهة، بل تفنن في اختراع ألوان العذاب له. فقيده إلى جبل سحيق، وأرسل عليه جوارح الطير تنهش كبده طوال النهار، حتى إذا جن الليل عادت سليمة في بدنه، لتعود الجوارح إلى نهشها بعد مطلع الشمس ولا يزال هكذا دواليك في العذاب الدائم مردود الشفاعة مرفوض الدعاء" … " وأنه كان يخادع زوجته "هيرة" ويرسل إله الغمام –بزعمهم- لمدارة الشمس في مطلعها، حذراً من هبوب زوجته الغيرى عليه مع مطلع النهار، ومفاجأته بين عشيقاته على عرش "الأوليمب".. فرق بين الذي يتعامل مع إله كهذا ويستمد منه أخلاقهن والذي يتعامل مع "الله" العادل، الكريم، الرحيم الذي يكره الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وينهى عن السوء. ويحب التوابين ويحب المتطهرين.. وأخيراً .. فهناك فارق هائل بين الإنسان الذي يظن أن إلهه هو "الطبيعة" الخرساء الصماء، التي لا تطالبه بعقيدة ولا شعيرة، ولا منهج ولا نظام حياة، ولا خلق ولا أدب، ولا ضمير ولا سلوك. ولا تحس بوجوده أصلاً. وليس لها هي إدراك ابتداء. ومن ثم فهي لا تحس ولا تعي، ولا تدري بخير أو شر. ولا تحاسب –من ثم- على خير أو شر .. والإنسان الذي يعرف أن إلهه "الله" الحي الذي لا يموت. الصمد المقصود في الحاجات. الرقيب الذي لا يغفل. الحسيب الذي لا ينسى. العادل الذي لا يظلم. الرحيم الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء.. إلى آخر صفات الله وأسمائه الحسنى.. إن الأمر مختلف جداً .. ومن ثم هذه القيمة الكبرى لهذه الخاصية في التصور الإسلامي .. ولقد عنى الإسلام عناية بالغة بتقرير هذه الحقيقة في تصور المسلمين وتوكيدها. وتقرير "وجود" الله سبحانه في حياتهم وتوسيعه وتعميقه .. وكانت حياة الجماعة المسلمة الأولى في ظلال الوحي المتلاحق، المتعلق بواقع حياتهم، وبما يهجس كذلك في ضمائرهم، مثلاً حياً، وترجمة عملية، لهذه الحقيقة.. فقد رأينا يد الله –سبحانه- تتدخل جهرة، وعينه تلحظ، وسمعه يرعى، أحوالهم اليومية، وأعمالهم الشخصية، وحياتهم الفردية والجماعية. لقد شهدنا العناية الإلهية تتدخل علانية في شأن أسرة صغيرة فقيرة مغمورة لتقرر حكم الله في قضية بين امرأة وزوجها. حين لم يجد الرسول –صلى الله عليه وسلم- فيها رأياً: (المجادلة: 1) كما شهدناها في شأن الرجل الأعمى الفقير ابن أم مكتوم، مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في هذه الصورة الرائعة: (عبس: 1-12) وشهدنا هذا التدخل في الأحداث الكرى سواء بسواء: شهدناه في الهجرة .. حيث يقول الله تعالى: (التوبة: 40) وشهدناه في بدر .. حيث يقول الله تعالى: (الأنفال: 5-12) وشهدناه في "أحد" حيث يقول الله تعالى: (آل عمران: 152-154) وشهدناه في كل موقف من مواقف المسلمين الكبرى. ولم يكن هذا التدخل الإيجابي وقفاً على هذه المجموعة من المسلمين. فهو شأن الله في كل موقف، وفي كل أمر، وفي كل حال .. وقد كان منه ما كان في شأن الرسل جميعاً – عليهم الصلاة والسلام- مما قصه الله –سبحانه- على كل الجماعة المسلمة في هذا القرآن.. كان منه في شأن موسى عليه السلام، مع فرعون وملئه، ما يصور هذا التدخل السافر المباشر: (القصص: 2-13) وكان منه في شأن نوح عليه السلام: (القمر: 9-14) وكان منه في شأن إبراهيم عليه السلام: (الأنبياء: 68-73) كذلك شهدناه في أمر الكون كله، وفي شأن سائر الخلائق والأحياء فيه: (فاطر: 41) (النحل: 79) (العنكبوت: 60) (الواقعة: 63-73) (الرعد: 41) والقرآن كله معرض هذه "الإيجابية" وهي أساس التصور الإسلامي –بعد التوحيد- وهي التي تتجلى فيها حقيقة التوحيد. فالتوحيد الإسلامي يمتاز بأنه توحيد الفاعلية والتأثير وليس مجرد التوحيد السلبي الذي يصفه أرسطو، أو يصفه أفلوطين! واستقرار هذه الحقيقة في ضمير الجماعة المسلمة الأولى هو الذي أنشأ هذه المجموعة الفريدة الممتازة في تاريخ البشرية كله على الإطلاق، وبدون استثناء. فقد عاشوا هذه الحقيقة. عاشوها حية في نفوسهم. عاشوها ليل نهار، وصباح مساء. عاشوها كما يعيشون حياتهم اليومية الواقعة. عاشوا مع الله. يحسون وجوده في نفوسهم وفي حياتهم أعمق من حس اللمس والرؤية. عاشوا في كنفه وفي رعايته. وعاشوا تحت عينه وفي رقابته. والتمسوا يده –سبحانه- تتدخل تدخلاً مباشراً في الصغير والكبير من أمورهم، وتنقّل خطاهم، وترقبها، وترشدهم، وتعقّب عليهم في الصغيرة وفي الكبيرة.. ومن ثم كانوا هذا الذي كانوا: من الحساسية والطمأنينة معاً. ومن اليقظة والراحة معاً. ومن التوكل والفاعلية معاً. ومن الخوف والطمع معاً. ومن التواضع والعزة معاً –التواضع لله والعزة بالله- ومن الخضوع والاستعلاء معاً – الخضوع لله والاستعلاء على أعداء الله – ومن ثم صنع الله بهم في هذه الأرض ما صنع من الصلاح والعمار، ومن الرفعة والطهارة، مما لم يسبق ولم يلحق في تاريخ بني الإنسان … والصفحة الأخرى للإيجابية في التصور الإسلامي .. هي إيجابية الإنسان في الكون. وإيجابية المؤمن بهذه العقيدة في واقع الحياة على وجه خاص. إن هذا التصور ما يكاد يستقر في الضمير، حتى يتحرك ليحقق مدلوله في صورة عملية، وليترجم ذاته، في حالة واقعية. والمؤمن بهذا الدين ما يكاد الإيمان يستقر في ضميره حتى يحس أنه قوة فاعلة مؤثرة. فاعلة في ذات نفسه، وفي الكون من حوله. إن التصور الإسلامي ليس تصوراً سلبياً يعيش في عالم الضمير. قانعاً بوجوده هناك في صورة مثالية نظرية! أو تصوفية روحانية! إنما هو "تصميم" لواقع مطلوب إنشاؤه، وفق هذا التصميم. وطالما هذا الواقع لم يوجد فلا قيمة لذلك التصميم في ذاته، إلا باعتباره حافزاً لا يهدأ لتحقق ذاته. هذا ما يثيره التصور الإسلامي في شعور المسلم… ومن ثم يجد دائماً هاتفاً ملحاً في أعماقه، يهب به إلى تحقيق هذا التصور في دنيا الواقع، ويؤرقه، حتى يهب للعمل، ويفرغ طاقته الإيمانية كلها في هذا العمل الإيجابي البناء. وفي إنشاء واقع تتمثل فيه هذه العقيدة في حياة الناس. وحيثما ذكر الإيمان في القرآن أو ذكر المؤمنون، ذكر العمل، الذي هو الترجمة الواقعية للإيمان، فليس الأمر مجرد مشاعر. إنما هو مشاعر تُفرَّغ في حركة، لإنشاء واقع، وفق "التصميم" الإسلامي للحياة، أو وفق التصور الإسلامي للحياة .. (الحجرات: 15) (النور: 55) (آل عمران: 110) (آل عمران: 195) (سورة العصر) فليس هنالك إيمان هو مجرد مشاعر في الوجدان، أو تصورات في الذهن، لا ترجمة لها في واقع الحياة. وليس هنالك إيمان هو مجرد شعائر تعبديةن ليس معها عمل يكيف منهجا لحياة كله ويخضعه لشريعة الله. ثم يحس المسلم – من وحي تصوره الإسلامي أنه –شخصياً- مطالب بأداء شهادة لهذا الدين، لا يستريح ضميره، ولا يطمئن باله، ولا يستشعر أنه أدّى حق نعمة الله عليه بالإسلام. وأنه يطمع –من ثم- في النجاة من عذاب الله في الدنيا والآخرة … إلا أن يؤدي هذه الشهادة كاملة، بكل تكاليفها في النفس والجهد والمال. (البقرة: 143) (البقرة: 140) وهو يؤدي هذه الشهادة .. أولاً .. في ذات نفسه: بأن يطابق بين واقع حياته الشخصية، في كل جزئية من جزئيات نشاطه، وبين مقتضيات التصور الذي يقوم عليه اعتقاده. فليست هنالك حركة واحدة من حركات حياته، إلا وهو مطالب بأن يشهد فيها لهذا الدين. شهادة عملية. لا شهادة اللسان وحده، ولا شهادة القلب معه كذلك. ولكن شهادة العمل المصدق للإيمان، المجسّم للعيان، المنشئ لآثاره في عالم الواقع وفي دنيا الناس. وهو يؤديها –ثانية- في دعوة الآخرين إلى هذا المنهج، وبيانه لهم. مسوقاً في هذه الدعوة وهذا البيان بدوافع كثيرة أولها: دافع أداء الشهادة لينجو من الله، وليؤدي حق نعمته عليه بهدايته إلى الإسلام.. وثانيها: حب الخير للناس، وهدايتهم إلى هذا الخير الذي هُدِيَ هو إليه، والذي لا يحتجنه لنفسه، ولا لأسرته، ولا لعشيرته، ولا لقومه، ولا لجنسه. لأنه يتعلم من هذا التصور ذاته أن البشر كلهم إخوة.. وثالثها: شعوره بأن تبعة ضلال الناس – إذا ضلوا- إنما تقع على عاتقه هو، ما لم يبين لهم –بعد ما عرف وتبين- وهي تبعة ثقيلة تنوء بضميره، وتنوء بكاهله، وقد علم أنها تبعة الرسل – صلوات الله وسلامه عليهم- وأنه هو مستخلف فيها عن الرسل، ومسؤول عنها بعدهم. (النساء: 165) (الإسراء: 15) وهو يؤديها .. أخيراً .. بالعمل على تحقيق منهج الله في حياة الناس، وإقامة النظام الذي ينبثق من ذلك التصور، وإقامة حياة الجماعة الإنسانية على أساس هذا النظام. باعتبار أن هذا التصور هو "تصميم" لعالم واقعي، يراد إخراجه وتحقيقه، ليتحقق وجود الإسلام في الأرض، ولتخلص الألوهية لله، إذ لا وجود للإسلام بدون قيام مجتمع يعيش بهذا النظام، ويعترف لله وحده بالألوهية، فلا يتلقى في منهج حياته الأساسي إلا من الله. ثم ليستحق المسلمون نصر الله وتأييده الذي وعدهم إياه. وشرط له شرطاً واضحاً لا عوج فيه: (الحج: 40، 41) وفي طبيعة التصور الإسلامي ذاته ما يحفز الإنسان لمحاولة الحركة الإيجابية، لتحقيق هذا المنهج في صورة واقعية. فالمسلم يعرف – من تصوره الإسلامي- أن "الإنسان" قوة إيجابية فاعلة في هذه الأرض، وأنه ليس عاملاً سلبياً في نظامها فهو مخلوق ابتداء ليستخلف فيها. وهو مستخلف فيها ليحقق منهج الله في صورته الواقعية: لينشئ ويعمر، وليغيّر ويطوّر، وليصلح، وينمّي. وهو معانٌ على هذه الخلافة: معانٌ من الله سبحانه بجعل النواميس الكونية وطبيعة الكون الذي يعيش فيه معاونة له. (النحل: 10-16) وهو مُعان من الله كذلك بما وهبه من القوى والاستعدادات الذاتية، وهو يكلفه أمر الخلافة: (النحل: 78) وشرط هذه الخلافة عند المسلم معروف: (البقرة: 38، 39) وشعوره بأنه مكلف بالعمل، ومعانٌ عليه، ينفي عنه الشعور بالسلبية في نظام هذا الكون – سواء بالقياس إلى القوى الكونية، أو بالقياس إلى قدر الله تعالى –فهنالك الاستعدادات الذاتية الموهوبة له، وهناك تسخير القوى الكونية لمساعدته، وهناك التوازن بين مشيئة الله المطلقة وحركة الإنسان الإيجابية. كما أسلفنا. وانتفاء الشعور بالسلبية يهيئه للحركة والتأثير والفاعلية. غير أن الإسلام لا يكتفي بأن يدفع عن المسلم الشعور بالسلبية. بل هو يمده بدوافع الحركة الإيجابية كذلك. إذ يعلّمه أن قدر الله ينفذ فيه والأرض من حوله، عن طريق حركته هو ذاته: (الرعد: 11) (التوبة: 14، 15) (الأحزاب: 60) (البقرة: 251) كما يعلّمه ان الله لا يرضى منه الشعور في الضمير، والكلمة على اللسان. ولا يدعه حتى يترجم ذلك في حياته واقعاً، يحاسبه عليه، ويجازيه بحسبه .. حتى الهدى من الله إنما يناله جزاء على الجهد فيه: (العنكبوت: 69) (آل عمران: 142) (التوبة: 105) بهذا كله يستشعر المسلم أن وجوده على الأرض ليس فلتة عابرة، إنما هو قدر مقدور، مرسوم له طريقه ووجهته وغاية وجوده … وأن وجوده على الأرض يقتضيه حركة وعملاً إيجابياً، في ذات نفسه. وفي الآخرين من حوله. وفي هذه الأرض التي هو مستخلف فيها، وفي هذا الكون المحسوب حسابه في تصميمه … وأنه لا يبلغ شكر نعمة الله عليه بالوجود، ونعمة الله عليه بالإيمان، ولا يطمع في النجاة من حساب الله وعذابه، إلا بأن يؤدي دوره الإيجابي في خلافة الأرض، وفق شرط الله ومنهجه، وتطبيق هذا المنهج في حياته وفي حياة غيره، والجهاد لدفع الفساد عن هذه الأرض التي هو قيم عليها والفساد في الأرض إنما ينشأ عن عدم تطبيق منهج الله في عالم الواقع، ودنيا الناس، حياة الجماعات – وأن وزر هذا الفساد –حين يقع- واقع على عاتقه هو، ما لم يؤد الشهادة لله في نفسهن وفي غيره، وفي الأرض كلها من حوله. وتصوّر المسلم للأمر على هذا النحو، لا جرم يرفع من قيمته في نظر نفسه، كما يرفع من اهتماماته. بقدر ما يشعره بضخامة التبعة الملقاة على عاتقه، وبثقل العبء الذي يحمله، ويكدح فيه حتى يلاقي الله ربه، وقد أدى الأمانة، وأدى الشهادة، ووفى بحق النعمة – فيما يملك من الطاقة- وطمع في النجاة من عذاب الله، وزحزح عن النار…
|