الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» **
ظهر بمصر وضواحيها مرض سموه بأبي الركب وفشا في الناس قاطبة حتى الأطفال وهو عبارة عن حمى ومقدار شدته ثلاثة أيام وقـد يزيـد علـى ذلـك وينقص بحسب اختلاف الأمزجة ويحدث وجعًا في المفاصل والركب والأطراف ويوقف حركة الأصابـع وبعـض ورم ويبقـى أثـره أكثر من شهر ويأتي الشخص على غفلة فيسخن البدن ويضرب على الإنسان دماغه وركبه ويذهب بالعرق والحمام وهو من الحوادث الغريبة. وفي عشرين رجب وصل مراد بك من ناحية قبلي وصحبته منهوبات وأبقار وأغنام كثيرة. وفي يوم الجمعة ثاني عشرينه الموافق لثاني شهر مسرى القبطي وفا النيل المبارك ثم زاد في ليلتها زيادة كثيرة حتى علا على السد وجرى الماء في الخليج بنفسه وأصبح الناس فوجدوا الخليج جاريًا وفيه المراكب فلم تحصل الجمعية ولم ينزل الباشا على العادة. وفـي أواخـر شهـر شعبـان وصـل إلـى مصـر قابجي باشا وبيده أوامر بعزل اسمعيل باشا عن مصر ويتوجه إلى جدة وأن إبراهيم باشا والي جدة يأتي إلى مصر وفرمان آخر بطلب الخزينة. وفي شهر شوال وصلت الأخبار بموت علي بك السروجي وحسن بك سوق السلاح بغزة. وفي يوم الخميس ثامن عشر شوال عمل موكب المحمل وخرج الحجاج وأمير الحاج مراد بك وخـرج فـي موكـب عظيـم وطلـب كثيـر وتفاخـر وماجـت مصـر وهاجـت فـي أيـام خروج الحج بسبب الأطلاب وجمع الأموال وطلب الجمال والبغال والحمير وغصبوا بغال الناس ومن وجوده راكبًا على بغلة أنزلوه عنها وأخذوها منه قهرًا فإن كان من الناس المعتبرين أعطـوه ثمنهـا وإلا فـلا وغلـت أسعارهـا جـدًا ولـم يعهـد حـج مثـل هـذه السنـة فـي كـل شـيء. وسافـر فيـه خلائـق كثيرة من سائـر الأجنـاس وسافـر صحبـة مـراد بـك أربـع صناجـق وهـم عبـد الرحمـن بـك عثمان وسليمان بك الشابوري وعلي بك المالطي وذو الفقار بك وأمراء وأغوات وغير ذلك أكابـر كثيـرة وأعيـان وتجار. وفيه حضر واحد أغا وعلى يده تقرير لاسمعيل باشا على مصر كما كان وكان لما أتاه العزل نـزل مـن القلعـة فـي غرة رمضان وصام رمضان في مصر العتيقة. ولما انقضى رمضان تحول إلى العادلية ليتوجه إلى السويس ويذهب إلى جدة حسب الأوامر السابقة فقدر الله بموت إبراهيم باشـا وحضـر التقريـر لـه بالولايـة ثانيـًا فركـب فـي يـوم الاثنيـن سـادس القعدة وطلع إلى القلعة من باب الجبل. مات الشيخ الفقيه الإمام الفاضل شيخنا الشيخ عبد الرحمن بن عمر العريشي الحنفي الأزهري ولد بقلعة العريش من أعمال غزة وبها نشأ وحفظ بعض المتون ولما مر عليه الشيخ العارف السيـد منصـور السرمينـي فـي بلـده وجه متيقظًا نبيهًا وفيه قوة استعدادية وحافظة جيدة فأخذه صحبته في صورة معين فـي الخدمـة وورد معـه مصـر فكـان ملازمـًا لـه لا يفارقـه وأذن لـه بالحضور في الأزهـر فكـان يحضـر دروس الشيـخ أحمـد البيلـي وغيـره فـي النحـو والمعقـول. ولمـا توجـه السيد المشار إليه إلى البلاد تركه ليشتغل بالعلم فلازم الشيخ أحمد السليماني ملازمة جيدة وحضر عليه غالب الكتب المستعلمة في المذهب وحضر دروس الشيـخ الصعيـدي والشيـخ الحنفي ولقنه الذكر وأجازه وألبسه التاج الخلوتي. ثم اجتمع بالمرحوم الوالد حسـن الجبرتـي ولازمه ملازمة كلية ودرجه في الفتوى ومراجعة الأصول والفروع وأعانه على ذلك وجد أن الكتب الغريبة عند المرحوم فترونق ونوه بشأنه وعرفه الناس وتولى مشيخة رواق الشوام وبه تخـرج الحقيـر فـي الفقـه. فـأول مـا حضـرت عليـه متن نور الإيضاح للعلامة الشرنبلالي ثم متن الكنز وشرحه لملا مسكين والدر المختار شرح تنور الأبصار ومقدار النصف من الدرر وشرح السيد علي السراجية في الفرائض. وكان له قوة حافظة وجودة فهم وحسن ناطقة فيقرر ما يطالعـه منـن المـواد عـن ظهـر قلبـه مـن حفظـه بفصاحـة مـن غيـر تلعثـم ولا تركيـز. وحـج فـي سنة تسع وسبعيـن مـن القلـزم منفـردًا متقشفـًا وأدرك بالحرميـن الأخيـار وعـاد إلـى مصـر وحصلت له جذبة في سنـة سـت وثمانيـن وتـرك عيالـه وانسلـخ عـن حالـه وصار يأوي إلى الزوايا والمساجد ويلقي دروسًا مـن الشفـاء وطـرق القـوم وكلـام سيـدي محـي الديـن والغزالـي. ثـم تراجـع قليـلًا وعـاد إلى حالته الأولى ولمـا توفـي مفتـي الحنفيـة الشيـخ أحمد الحماقي تعين المترجم في الإفتاء وعظم صيته وتميز على أقرانـه واشتـرى دارًا حسنـة بالقرب من الجامع الأزهر وهي التي كانت سكن الشيخ الحفني في السابق وتعرف بدار القطرسي. وتردد الأكابر والأعيان إليه وانكبت عليه أصحاب الدعاوى والمستفتـون وصـار لـه خـدم وأتباع وفراشون وغير ذلك. وسافر إلى اسلامبول بعد موت الأمير محمد بك لقضاء بعض الأغراض وقرأ هناك كتاب الشفاء ورجع إلى مصر وكان كريم النفس سمحًا بما في يده يحب إطعام الطعام ويعمل عزائم للأمراء ويخلع عليهم الخلع ولما زاد انحطاط الشيـخ أحمـد الدمنهـوري وتبيـن قـرب وفاتـه وفـراغ أجلـه ناقـت نفس المترجم لمشيخة الأزهر إذ هي أعظم مناصب العلماء فأحب الاستيلاء عليها والتوصل إليها بكيفية وطريقة فحضر مع شيخ البلد إبراهيم بك إلى الجامع الأزهر وجمع الفقهاء والمشايخ وعرفهم أن الشيخ أحمد الدمنهوري أقامه وكيلًا عنه وبعد أيام توفي الشيخ الدمنهوري فتعين هو للمشيخة بتلك الطريقة وساعده استمالـة الأمراء وكبار الأشياخ والشيخ أبو الأنوار السادات وما مهده معهم في تلك الأيام وكاد يتم الأمر فانتدب لنقـض ذلـك بعـض الشافعيـة الخامليـن وذهبـوا إلـى الشيـخ محمـد الجوهـري وساعدهم وركب معهم إلى بيت الشيخ البكري وجمعوا عليهم جملة من أكابر الشافعية مثل الشيـخ أحمـد العروسـي والشيـخ أحمـد السمنـودي والشيـخ حسـن الكفـراوي وغيرهم وكتبوا عرضحـال إلـى الأمـراء مضمونـه أن مشيخـة الأزهـر مـن مناصـب الشافعية وليس للحنفية فيها قديم عهد أبدًا وخصوصًا إذا كان آفاقيًا وليس من أهل البلدة. فإن الشيخ عبد الرحمـن كذلـك وموجـود فـي العلمـاء الشافعيـة مـن هـو أهـل لذلـك فـي العلـم والسـن وأنهـم اتفقـوا علـى أن يكـون المتعين لذلك الشيخ أحمد العروسي وختم الحاضرون على ذلك العرضحال وأرسلوه إلى إبراهيم بك ومراد بم فتوقفوا وأبوا وثارت فيهم العصبية وشددوا في عدم النقض ورجع الجواب للمشايخ بذلك فقاموا على ساق وشدد الشيخ محمد الجوهري في ذلك وركبوا بأجمعهم وخرجوا إلى القرافة وجلسوا بجامع الإمام الشافعي وباتوا به. وكان ذلك ليلة الجمعة واجتماع الناس للزيارة فهرعت الناس واجتمع الكثير من العامة ينظرون فيما يؤول إليه هذا الأمر وكان للأمراء اعتقاد وميـل للشيـخ محمـد بـن الجوهـري وكذلـك نساؤهـم وأغواتهـم بسبـب تعففـه عنهم وعدم دخول بيوتهم ورد صلاتهم وتميزه بذلـك عـن جميـع المتعمميـن. فسعـى أكثرهـم فـي أنفـذا غرضـه وراجعـوا مـراد بـك وأوهموه حصول العطب له ولهم أو ثوران فتنـة فـي البلـاد وحضـر إليهـم علـي أغـا كتخـدا الجاويشة وحاججهم وحاججوه ثم قال وتوجه وحضر مراد بك أيضًا للزيـارة فكلمـه الشيـخ محمـد وقـال: لا بـد مـن فـروة تلبسهـا للشيـخ العروسـي وهـو يكـون شيخـًا على الشافعية وذاك شيخًا على الحنفية كما أن الشيخ أحمد الدردير شيخ المالكية والبلد بلد الإمام الشافعي وقد جئنا إليـه وهو يأمرك بذلك وإن خالفت يخشى عليك. فما وسعه إلا أنه أحضر فروة وألبسها للشيخ العروسي عند باب المقصورة وركب مراد بك متوجهًا وركب المشايخ وبينهم الشيخ العروسي وذهبوا إلى إبراهيم بك ولم يكن الأمراء رأوا الشيخ العروسي ولا عرفوه قبل ذلك فجلسوا مقدار مسافة شرب القهوة وقاموا متوجهين ولم يتكلم إبراهيم بك بكلمـة. فذهـب الشيـخ العروسي إلى بيته وهو بيت نسيبه الشيخ أحمد العريان واجتمع عليه الناس وأخذ شأنه في الظهور. واحتد العريشي وذهب إلى الشيخ السادات والأمراء فألبسوه فروة أيضًا فتفاقم الأمر وصاروا حزبين وتعصب للمترجم طائفـة الشـوام للجنسيـة وطائفـة المغاربـة لانضمـام شيخهـم الشيخ أبي الحسن القلعي معه من أول الأمر وتوعدوا منن كان مع الفرقة الأخرى وحذروهم ووقفوا لمنعهم من دخول الجامع وابن الجوهري يسوس القضية ويستميل الأمراء وكبار المشايخ الذين كانوا مع العريشي مثل الشيخ الدردير والشيخ أحمد يونس وغيرهم واستمر الأمر على ذلك نحو سبعة أشهر إلى أن أسعفت العروسي العناية ووقعت الحادثة المذكورة بين الشوام والأتراك واحتد الأمراء الأتراك للجنسية وأكدوا في طلب المحاققة وتصدى العريشـي للشـوام المـذب عنهم وحصل منهم ما حصل لأجل خلاصهم. فعند ذلك انطلقت عليه الألسن وأصبح الصديـق عـدوًا وانحـرف عنـه الأمـراء وطلبـوه فاختفـى وعيـن لطلبه الوالي وأتباع الشرطة وعزلوه من الإفتاء أيضًا. وحضر الأغا وصحبته الشيخ العروسي إلى الجامع للقبض على الشوام فاختفوا وفروا وغابوا عن الأعين فأغلقوا رواقهم وسمروه أيامًا ثم اصطلحوا على الكيفية المذكورة آنفًا وظهر العروسي من ذلك اليوم وثبتت مشيخته ورياسته وخمل العريشي وأمروه بلزوم بيته ولا يقـارش فـي شـيء ولا يتداخـل فـي أمـر فعنـد ذلـك اختلى بنفسه وأقبل على العبادة والذكر وقراءة القـرآن ونزلـت لـه نزلـة فـي أنثييـه من القهر فأشاروا عليه بالفصد وفصدوه فازداد تألمه وتوفي في ليلة الخميس سابع جمادى الأولى من السنة وجهز بصباحه وصلي عليه بالأزهر في مشهد حافل وحضره مراد بك وكثير من الأمراء وعلي أغا كتخدا الجاويشية ودفن برحاب السادة الوقائيـة وذلـك بعـد الحادثـة بتسعـة وثلاثيـن يومـًا رحمه الله تعالى. ومن آثاره رسالة ألفها في سر الكنـى باسـم السيـد أبـي الأنـوار بـن وفـي أجـاد فيها ووصلت إلى زبيد وكتب عليها الشيخ عبد الخالق بن الزين حاشية وقرظ عليها الشيخ العروسي والشيخ الصبان وله غير ذلك. ومات الشريف السيد قاسم بن محمد التونسي كان إمامًا في الفنون وله يد طولى في العلوم الخارجة مثل الطب والحرف وكان معه وظيفة تدريس الطب بالبيمارستان المنصور وتولـى مشيخـة رواق المغاربـة مرتيـن والأولـى استمـر فيهـا مـدة وفـي تلـك المـدة حصلـت الفتن ثم عزل عنها وأعاد الدروس في مدرسة السيوفيين المعروفة الآن بالشيخ مطهر ولـه تقريـظ علـى المدائـح الرضوانية جمع الشيخ الأكاوي أحسن فيا وكان ذا شهامة وصرامة في الدين صعبًا في خلقه وربمـا أهـان بعـض طائفـة النصارى عند معارضتهم له في الطريق وأهين بسبب ذلك من طرف بعض الأمراء وتحزبت له العلماء وكادت أن تكون فتنة عظيمة ولكن الله سلم. توفي بعد أن تعلل كثيرًا وهو متولي مشيخة رواقهم وهي المرة الثانية وكان له باع في النظم والنثر فمنها مدائحه في الأمير رضوان كتخدا الجلفي له فيه عدة قصائد فرائد مذكورة في الفوائح الجنانية. ومات الإمام الفهامة الألمعي الأديب واللوذعي النجيب الشيخ محمد لهلباوي الشهير بالدمنهوري اشتغـل بالعلـم حتـى صـار إمامـًا يقتدى به ثم اشتغل بالطريق وتلقن الأسماء وأخذت عليه العهود وصار خليفة مجازًا بالتلقين والتسليك وحصل به النفع. وكان فقيهًا دراكًا فصيحًا مفوهًا أديبًا شاعـرًا لـه بـاع طويـل فـي النظـم والنثـر والإنشـاء ولمـا تملـك علـي بك بعد موت شيخه الحفني طلبه إليـه وجعلـه كاتـب إنشائـه ومراسلاتـه وأكرمـه إكرامـًا كثيرًا ومدحه بقصائد ولم يزل منضويًا إليه مدة دولته. ومـات السيـد قاسـم بـن محمـد بـن محمد علي بن أحمد بن عامر بن عبد الله ابن جبريل بن كامل بـن حسـن بـن عبد الرحمن بن عثمان بن رمضان بن شعبان ابن أحمد بن رمضان بن محمد بن القطب أبي الحسن علي بن محمد ابـن أبـي تـراب علـي بـن أبـي عبـد اللـه الحسيـن بـن إبراهيـم بـن محمـد بن أحمد ابن محمد بن محمد بن أبي جعفر محمد بن الحسن بن الحسن بن اسمعيل الديباج بن إبراهيـم بن الحسن المثني بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب أحد الأشراف الصحيحي النسـب بمصـر فجـده أبـو جعفـر يعـرف بالثـج لثجثجـة فـي لسانه وحفيده الحسين بن إبراهيم يعرف بابـن بنـت الروبـدي وحفيـده علـي بـن محمـد مدفـون بالصعيـد في بلد يقال له دمشاوباشم والمترجم هو والد السيدين الجليلين اسمعيل وإبراهيم المتقدم ذكرهما صحح هذا النسب شيخنا السيد محمد مرتضى كما ترى وكان حمام البابا في ملكه مما خلفه له سلقه فكان يجلس فيه وكان شيخًا مهيبًا معمرًا منور الشيبة كريم الأخلاق متعففًا مقبلًا على شأنه رحمه الله تعالى. ومات الإمام العارف الصوفي الزاهد أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي ابن سعيد بن حم الكتانـي السوسـي ثـم التونسـي ولـد بتونس ونشأ في حجر والده في عفة وصلاح وعفاف وديانة وقـرأ عليـه وعلـى شيـخ الجماعـة سيـدي محمد الغرباوي وعلى آخرين وتكمل في العلوم والمعارف مـع صفـاء ذهنه وسرعة إدراكه وتوقد خاطره وكمال حافظته وكان والده يحبه ويعتمد على ما يقولـه فـي تحريـر نقلـه ويصـرح بذلـك فـي أثنـاء درسـه. وقـد بلـغ المترجـم مـن الصلـاح والتقـوى إلـى الغاية واشتهر أمره في بلاد أفريقية اشتهارًا كليًا حتى أحبه الصغير والكبير وكان منفردًا عن الناس منقبضـًا عن مجالسهم فلا يخرج من محله إلا لزيارة ولي أو في العيدين لزيارة والده وكان للمرحوم علي باشا والي تونس فيه اعتقاد عظيم وعرض عليه الدنيا مرارًا فلم يقبلها وعرضت عليه توليـة المـدارس التـي كانـت بيـد والده فأعرض عنها وتركها لمن يتولاها وعكف نفسه على مذاكرة العلوم مع خواص أصحابه ومطالعة الكتب الغريبة واجتمع عنده منها شيء كثير وكان يرسل في كل سنة قائمة إلى شيخنا السيد مرتض فيشتري له مطلوبه وكان يكاتبه ويراسله كثيرًا. ومـات الفقيـه الأديـب الماهر أحمد بن عبد الله بن سلامة الأدكاوي نزيل الإسكندرية وأمه شريفة من ذرية السيد عيسى بن نجم خفير بحر البرلس كان حسن المحاورة ولديه فضل ويحفظ كثيرًا من الأشياء منها المقامات الحريرية وغيرها من دواوين الشعر. وناب عن القضاء في الثغر مدة وكـان يتـردد إلـى مصـر أحيانـًا وجمـع عـدة دواوين شعرية من المتقدمين والمتأخرين نحو المائتين وطالع كثيرًا منها مما لم يملكه. ولم يزل على حالة مرضية حتى توفي بالثغر سنة تاريخه. ومات الشيخ الصالح المعمر خالد أفندي بن يوسف الديار بكرلي الواعظ كان يعظ الأتراك بمكة على الكرسي ثم ورد مصر ولازم حضور الأشياخ بمصر والوعظ للأتراك وحضر معنا كثيرًا علـى شيخنـا السيـد محمـد مرتضـى فـي دروس الصحيـح بجامـع شيجـون فـي سنـة 1190 وفـي الأمالي والشمائل في جامع أبي محمود الحنفي وأخبر أنه دخل دمشق وحضر دروس الشيخ اسمعيل الجعلوني وأجازه وأدرك جلة الأشياخ بديار بكر والرها وأزروم. وكان رجلًا صالحًا منكسـرًا ولـه مـرأى حسنـة ولا زال على طريقته في الحب والملازمة حتى مرض أيامًا وانقطع في بيته ومات في رابع جمادى الأولى. ومات الشيخ الفقيه الكامل والنجيب الفاضل أحد العلماء الأعلام وأوحد فضلاء الأنام الشيخ محمـد بـن عبـادة بـن بـري العـدوي ينتهي نسبه إلى علي أبي صالح المدفون بالعلوة في بني عدي قدم إلى مصـر سنـة 1164 وجـاور بالأزهـر وحفـظ المتـون ثـم حضـر شيـوخ الوقـت ولـازم دروس علماء العصر ومهر في الفنون وتفقه على علماء مذهبه من المالكية مثل الشيخ علي العدوي والشيخ عمر الطحلاوي والشيخ خليل والشيخ الدردير والبيلي وأخذ المعقولـات عـن شيخه الشيخ علي العدوي الصعيدي وغيره ولازمه ملازمة كليه وانتسب إليه حسًا ومعنى وصار من نجباء تلامذته ودرس الكتب الكبار في الفقـه والمعقـول ونـوه الشيـخ بفضلـه وأمـر الطلبة بالأخذ عنه وصار له باع طويل وذهن وقاد وقلم سيال وفصاحة في اللسان والتقرير وصواب في التحرير وقوة استعداد واستحضار وسليقة. ومن تآليفه حاشية على شذور الذهـب لابـن هشـام متداولـة بأيـدي الطلبة نافعة وحاشية على مولد النبي صلى الله عليه وسلم للغيطي وابن حجر والهدهدي وحاشية على شرح بن جماعة في مصطلح الحديث وحاشية عجيبـة علـى جمـع الجوامـع وعلـى السعـد والقطـب وعلـى أبي الحسن وحاشية على شرح الخرشي وعلـى فضائـل رمضـان وكتابـة محـررة علـى الورقـات والرسالـة العضديـة وعلـى آداب البحث والاستعـارات. ولـم يـزل يملـي ويقـرئ ويفيـد ويحـرر ويجيـد حتـى وافـاه الحمـام وتوفـي في أواخر شهر جمـادى الثانيـة مـن السنـة بعد أن تعلل بعلة الاستسقاء سنين وكان يقرأ ليالي المواسم مثل نصف شعبان والمعراج وفضائل رمضان وغير ذلك نيابة عن شيخه الشيخ علي الصعيدي العدوي ويجتمع بدرسه الجم الكثير من طلبة العلم والعامة رحمه الله. ومـات الأميـر علـي بـك السروجـي وهو من مماليك إبراهيم كتخدا وإشرافات علي بك أمره وقلده الصنجقية بعد موت سيدهم ولقب بالسروجي لكونه كان سكنًا بخط السروجية. ولما أمره علـي بـك هـو وأيـوب بـك مملوكـه ركـب معمهـا إلـى بيـت خليـل بـك بلفيـا وخطـب لعلـي بـك هـذا أخـت خليـل بـك وهـي ابنـة إبراهيـم بلفيـا الكبيـر وعقـد عقـده عليهـا ثم خطب لأيوب بك ابنة خليل بك وعقـد للأخـرى علـى أيـوب بـك فـي ذلـك المجلـس وشربـوا الشربـات وفرقـوا المحـارم والهدايـا وانصرفـوا وعملـوا العـرس بعـد أن جهزهما بما يليق بأمثالهما وزفوا واحدة بعد أخرى إلى الزوج. ولمـا حصلـت الوحشـة بيـن المحمديـة واسمعيـل بـك انضـم إلـى اسمعيـل بـك لكونـه خشداشـه وخـرج إلى الشام صحبته فلما سافر اسمعيل بك إلى الديار الرومية تخلفه المترجم مع من تخلف ومات ببعض ضياع الشام كما ذكر. ومـات أيضـًا الأميـر حسـن بـك المعـروف بسـوق السلـاح لسكنه في تلك الخطة ببيت الست البدوية وأصله مملوك صفية جارية الشيخ أبي المواهب البكري وكان بن أخيها فاشترته واستمر في خدمـة الشيـخ أبـي المواهـب إلـى أن مات فسلك في طريق الأجناد وخدم علي بك إلى أن جعله كاشفًا في جهة من الجهات القبلية فأقام بها إلى أن خالف محمد بك على سيده علي بك وذهـب إلى قبلي واجتمعت عليه الكشاف والأجناد وكان حسن هذا من جملة من حضر إليه بمالـه ونوالـه وخيامـه وحضـر محمـد بـك إلـى مصـر وملكهـا مـن سيده علي بك. ولم يزل حسن هذا فـي خدمـة محمـد بـك أبـي الذهـب فرقاه في الخدم والمناصب وصنجقه ولم يزل في الإمارة مدة محمـد بـك وأتباعـه إلـى أن خـرج مـع من خرج صحبة اسمعيل بك ومات ببعض ضياع الشام والله الموفق. سنة أربع وتسعين ومائة وألف فيهـا فـي يـوم الخميـس حـادي عشـر صفـر دخـل الحجـاج إلـى مصـر وأميـر الحـاج مراد بك ووقف لهم العربان في الصفرة والجديدة وحصروا الحجاج بين الجبال وحاربوهم نحو عشر ساعات ومات كثير من الناس والغزو الأجناد ونهبت بضائع وأحمال كثيرة وكذلك من الجمال والدواب والعرب بأعلى الجبال والحج أسفل كل ذلك والحج سائر. وفي يوم الخميس ثالث شهر رجب اجتمع الأمراء وأرسلوا إلى الباشا أرباب العكاكيز وأمروه بالنـزول مـن القلعـة معـزولًا فركـب فـي الحـال ونـزل إلـى مصـر العتيقـة ونقلـوا عزالـه ومتاعـه فـي ذلـك اليوم واستلموا منه الضربخانة وعمل إبراهيم بك قائمقام مصر. فكانت مدة ولاية اسمعيل باشا في هـذه المـرة ثمانيـة أشهـر تنقص ثلاثة أيام وكان أصله رئيس الكتاب باسلامبول من أرباب الأقلام. وكـان مـراد بـك هـذا أصهـل مـن مماليكـه فباعـه لبعـض التجـار فـي معارضـة وحضـر إلـى مصـر ولـم يزل حتى صار أميرها. وحضر سيده هذا في أيام إمارته وهو الذي عزله من ولايته ولكن كان يتأدب معه ويهابه كثيرًا ويذكر سيادته عليهن وكان هذا الباشا أعوج العنق للغاية وكان قد خـرج لـه خـراج فعالجـه بالقطع فعجزت العروق وقصرت فاعوج عنقه وصارت لحيته عند سدره ولا يقدر على الالتفات إلا بكليته إلا أنه كان رئيسـًا عاقـلًا صاحـب طبيعـة ويجـب المؤانسـة والمسامرة. ولما حضر إلى مصر وسمع بأوصاف شيخنا الشيخ محمود الكردي أحبه واعتقده وأرسل له هدية وأخذ عليه العهد بواسطة صديقنا نعمان أفندي وكان به آنسًا وقلده أمين الضربخانة. ولما أخذ العهد على الشيخ أقلـع عـن استعمـال البـرش وألقـاه بظروفـه وقلـل مـن استعمال الدخان. وكان عنـده أصنـاف الطيـور المليحـة الأصـوات وعمـل بستانـًا لطيفـًا فـي الفسحة التي كانت بداخل السراية وزرع بها أصناف الزهور والغرس والورد والياسمين والفل وبوسطه قبة على أعمدة لطيفة من الرخام وحولها حاجز من السلك النحاس الرفيع الأصفر وبداخلها كثير من عصافير القنارية وعمل لهم أوكارًا يأوون إليها ويطيرون صاعدين هابطين بداخـل القبة ويطرب لأصواتهم اللطيفة وأنغامهم العذبة وذلك خلاف ما في الأقفاص المعلقة في المجالس وتلك الأقفاص كلها بديعة الشكل والصنعة. ولما أنزله على هذه الصورة انتهب الخدم تلك الطيور والأقفاص وصاروا يبيعونها في أسواق المدينة على الناس. وفـي يـوم الجمعـة عاشـر شعبـان الموافـق لسابع مسرى القبطي أوفى النيل المبارك وكسر السد في صبحها يوم السب بحضرة إبراهيم بك قائمقام مصر والأمراء. وفـي أواخـر شعبـان شـرع الأمـراء فـي تجهيز تجريدة وسفرها إلى جهة قبلي لاستفحال أمر حسن بك ورضوان بك فإنه انضم إليهم كثير من الأجناد وغيرهم وذهب إليهم جماعة اسمعيل بك وهـم إبراهيـم بـك قشطـة وعلـي بك الجوخدار وحسين بك وسليم بك من خلف الجبل فعندما تحققـوا ذلـك أخـذوا فـي تجهيـز تجريـدة وأميرهـا مـراد بـك وصحبتـه سليمـان بـك أبـو نبـوت وعثمـان بـك الأشقر ولاجين بك ويحيى بك وطلبوا الاحتياجات واللوازم وحصل منهم الضرر وطلب مراد بك الأموال من التجار وغيرهم مصادرة وجمعوا المراكب وعطلوا الأسباب وبرزوا بخيامهم إلى جهة البساتين. وفيه حضر من الديار الرومية أمير أخور وعلى يده تقرير لاسمعيل باشا على السنة الجديدة فوجده معزولًا وأنزلوه في بيت بسويقة العزى. وفي يوم الخميس عشرين شوال وكان خروج المحمل والحجاج صحبة أمير الحج مصطفى بك الصغير. من مات في هذه السنة مـات السيـد الأجـل الوجيـه الفاضـل السيـد محمـد بـن عثمان بن محمد بن عبد الرحيم بن محمد بن عبد الرحيم بن مصطفى بن القطب الكبير سيدي محمد دمرداش الخلوتي ولد بزاوية جده ونشـأ بهـا ولمـا توفـي والـده السيـد عثمان جلس مكانه في خلافتهم وسار سيرًا حسنًا مع الأبهة والوقار وتردد الأفاضل إليه على عادة أسلافه. وكان يعاني طلب العلم مع الرفاهية وبعض الخلاعة ولازم المرحوم الوالد هو وأولاده السيد عثمان والسيد محمد المتولي إلا آن في مطالعة الفقه الحنفي وغيره في كل يوم بالمنزل ويحضرون أيضًا بالأزهر وعلى الأشياخ المترددين عليهم بالزاوية مثل الشيخ محمد الأمير والشيخ محمد العروسي والشيخ محمد بن اسمعيـل النفـراوي والشيـخ محمـد عرفـة الدسوقـي وغيرهم وكان إنسانًا حسن العشرة والمودة. توفي في رابع عشر رمضان من السنة ودفن بزاويتهم عند أسلافهم. ومات الفقيه النبيه المتقن المتفنن الأصولي النحوي المعقولي الجدلي الشيخ مصطفـى المعـروف بالريـس البولاقـي الحنفـي كـان فـي الأصـل شافعـي المذهـب ثـم تحنف وتفقه على الشيخ الاسقاطي والسيد سعودي والدلجي وحضر المعقولات على الشيخ علي الصعيدي والشيخ علي قايتباي والإسكندراني وكان ملازمًا للسيد سعودي فلما توفي لازم ولده السيد إبراهيم ولـم تطـل أيامه فلما مات لازم الشيخ الوالد حسن الجبرتي ملازمة كلية في المدينة وبولاق وكان يحبه لنجابته واستحضاره ونوه بشأنه ولاحظه بأنظـاره وأخـذ لـه تدريـس الحنفيـة بجامـع السنانيـة وجامـع الواسطـي وعاونـه في أمور من الأحكام العامة ببولاق حتى اشتهر ذكره بها وعظم شأنه عند أهلها وصار بيته مثل المحكمة في القضايا والدعاوى والمناكحات والخصومات وكان فيه شهامة وقوة جنان وصلابة رحمه الله تعالى وعفا عنه. ومات الولي الصالح الفاضل الشيخ عبد الله بن محمد بن حسين السندي نزيل المدينة المنورة المشهور بجمعة حضر دروس الشيخ محمد حياة السندي وغيره من الواردين وجـاور بالمدينـة نحـوًا مـن أربعيـن سنـة وانتفـع به طلبة المدينة واشتهرت بركنه. فكل من قرأ عليه شيئًا فتح الله عليه وصار من العلماء وكان ذا كرم ومروءة وحياء وشفقة توفي في هذه السنة. ومات الشيخ الصالح الوجيه أحمد بن عبد الله الرومي الأصل المصري المكتب الخطاط الملقب بالشكـري جـود الخـط علـى جماعـة من المشاهير ومهر فيه حتى برع وأجيز وأجاز على طريقتهم ونسخ بيده عدة مصاحف ودلائل الخيرات وغير ذلك وانتفع به الناس انتفاعًا عامًا واشتهر خطه في الآفاق وأجاز لجماعة وكان وجيهًا منور الشيبة يلوح عليه سيما الصلاح والتقوى نظيـف الثيـاب حسـن الأخلـاق مهذبـًا متواضعـًا. توفـي عشية يوم الأربعاء ثالث جمادى الأولى من السنة وصلي عليه بالأزهر ودفن بالقرافة رحمه الله تعالى. سنة خمس وتسعين ومائة وألف في منتصف المحرم قبض إبراهيم بك على إبراهيم أغا بيت المال المعروف بالمسلماني وضربه بالنبابيت حتى مات وأمر بإلقائه في بحر النيل فألقوه وأخرجه عياله بعد أيام من عند شبر وفي يوم السبت سادس عشر صفر نزل الحجاج ودخلوا إلى مصر صحبة المحمل وأمير الحاج مصطفى بك في يوم الثلاثاء تاسع عشرة. وفيه جاءت الإخباريات اسمعيل بك وصل من الديار الرومية إلى ادرنه وطلع من هناك ويمل يزل يتحيل حتى خلص إلى الصعيد وانضم إلى حسن بك ورضوان بك وباقي الجماعة. وفـي أواخـر شهـر صفـر وصلـت الأخبـار مـن ناحيـة قبلـي بـأن مـراد بـك خنـق إبراهيم بك أوده باشا قيل أنه اتهمه بمكاتبات إلى اسمعيل بك وحبس جماعة آخرين خلافه. وفيه وصلت الأخبار بورود باشا إلى ثغر سكندرية واليًا على مصر وهو محمد باشا ملك. وفـي سـادس جمـادى الأولـى وصـل مـراد بـك ومـن معـه إلـى مصـر وصحبنـه إبراهيـم بـك قشطـة صهر اسمعيـل بـك وسليـم بـك أحـد صناجـق اسمعيـل بـك بعدمـا عقـد الصلـح بينه وبينهم وأحضر هؤلاء صحبتـه رهائـن وأعطى لاسمعيل بك اخميم وأعمالها وحسن بك قنا وقوص وأعمالها ورضوان بـك اسنـا ولـم تـم الصلـح بينـه وبينهـم علـى ذلـك أرسـل لهـم هدايـا وتقادم وأحضر صحبته من ذكر فكانـت مـدة غيابـه ثمانيـة أشهـر وأيامـًا ولم يقع بينهم مناوشات ولا حرب بل كانوا يتقدمون بتقدمه ويتأخرون بتأخره حتى تم ما تم. وفي منتصف شهر جمادى الأولى سافر علي أغا كتخدا الجاويشية وأغات المتفرقة والترجمان وفـي غـرة شهـر رجـب وصـل الباشـا إلى بر انبابة وبات هناك وعدت الأمراء في صبحها للسلام عليه ثم ركب إلى العادلية. وفـي يـوم الاثنيـن ركـب الباشـا بالموكـب مـن العادلية ودخل من باب النصر وشق من وسط المدينة وطلع إلى القلعة وضربوا له المدافع من باب الينكرجية وكان وجيهًا جليلًا منور الوجه والشيبة. وفي يوم الخميس عملوا الديوان وحضر الأمراء والمشايخ وقرئ التقليد بحضرتهم وخلع على الجميع الخلع المعتادة. وفي يوم الأحد المبارك ليلة النصف من شعبان الموافق لأول مسرى القبطي كان وفاء النيل المبارك ونزل الباشا وكسروا السد بحضرته على العادة صبح يوم الاثنين.
|