الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وأيضا إن الكثير من المعتزلة خصوا مثل قوله تعالى: {إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعًا} [الزمر: 53] بالصغائر فلو كان جواز العفو مستلزمًا كما زعموا للعلم بعدم العقاب لزم اشتراك الإلزام بأن يقال: إن المرتكب للصغائر إذا علم أنه لا يعاقب على ذنبه كان ذلك تقريرًا له وإغراءًا للغير عليه وفيه من الفساد ما فيه، وما جعلوه قرينة على التقييد معارض بما يدل على الإطلاق أعني قوله: {وَللَّهِ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض} فإنه معطوف معنى على قوله جل اسمه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَئ} [آل عمران: 128] ويدل ذلك على أن له سبحانه التصرف المطلق وهو على خلاف ما يقولون حيث جعلوا تصرفه ومشيئته مقيدًا بأن يكون على مقتضى الحكمة والحكمة تقتضي عدم غفران من لم يتب ولا يخفى أنه في حيز المنع لأن المشيئة والحكمة كلاهما من صفاته تعالى لا تتبع إحداهما الأخرى وبتقدير الاستتباع لا نسلم أن الحكمة تقتضي عدم غفران من لم يتب على أن تعقيب أو يعذبهم بقوله عز وجل: {فَإِنَّهُمْ ظالمون} [آل عمران: 128] لا يدل على أكثر من أن الظلم مفض إلى التعذيب ومن يمنع الإفضاء إنما المنع على أن يكون تفسيرًا {لِمَن يَشَاء} وأين الدلالة على أن كل ظلم كذلك ولا عموم للفظ ولا هو من قبيل مفهوم الصفة ليصلح متمسكًا في الجملة، وما نقل عن الحسن وعطاء لا يعرف له سند أصلًا ومن ادعاه فليأت به إن كان من الصادقين، ومما يدل على كذبه أن فيه حجرًا على الرحمة الواسعة وتضييق مسالكها من غير دليل قطعي ولا يظن بمثل الحسن هذا القبيح سلمنا الصدق وعدم لزوم ما ذكر لكن قول الحسن ونحوه لا يترك له ظاهر الكتاب والحق أحق بالاتباع. فإن قال الخصم: نحن نتمسك في هذا المطلب بلزوم الخلف قلنا: يكون رجوعًا إلى الاستدلال بالمعقول، وقد أذقناكم الموت الأحمر فيه لا بالآيات فتبقى دلالة هذه الآية على عمومها، وهو مطلوبنا هنا على أن هذه الآية واردة في الكفار على أكثر الروايات، ومعتقد الجماعة أن المغفرة في حقهم مشروطة بالتوبة من الكفر والرجوع إلى الإيمان كما يفصح عنه قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48] وليسوا محل خلاف بين الطائفتين فمن استدل بها من المعتزلة على غرضه الفاسد فقد ضل سواء السبيل. اهـ.
.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}: .قال الفخر: المقصود بيان أنه وإن حسن كل ذلك منه إلا أن جانب الرحمة والمغفرة غالب لا على سبيل الوجوب بل على سبيل الفضل والإحسان. اهـ..قال الألوسي: {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} تذييل مقرر لمضمون قوله تعالى: {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء} مع زيادة، وفي تخصيص التذييل به إشارة إلى ترجيح جهة الإحسان والإنعام، وفيه ما يؤيد مذهب الجماعة. اهـ..قال أبو حيان: {والله غفور رحيم} في هذه الجملة ترجيح لجهة الإحسان والإنعام. اهـ..قال أبو السعود: {وَللَّهِ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض} كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان اختصاصِ ملكوتِ كلِّ الكائناتِ به عز وجل إثرَ بيانِ اختصاصِ طرَفٍ من ذلك به سبحانه تقريرًا لما سبق وتكملةً له. وتقديمُ الجارِّ للقصر، وكلمةُ ما شاملةٌ للعقلاء أيضا تغليبًا أي له ما فيهما من الموجودات خلقًا ومُلكًا لا مدخَلَ فيه لأحد أصلًا فله الأمر كلُّه {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء} أن يغفرَ له مشيئةً مبنيةً على الحِكمة والمصلحة {وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء} أن يعذِّبَه بعمله مشيئةً كذلك. وإيثارُ كلمة {مِنْ} في الموضعين لاختصاص المغفرةِ والتعذيبِ بالعقلاء، وتقديمُ المغفرة على التعذيب للإيذان بسبق رحمتِه تعالى غضبَه وبأنها من مقتَضيات الذاتِ دونه فإنه من مقتضيات سيئاتِ العُصاة، وهذا صريحٌ في نفي وجوبِ التعذيبِ، والتقييدُ بالتوبة وعدمِها كالمنافي له {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} تذييلٌ مقرر لمضمون قوله تعالى: {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء} مع زيادة، وفي تخصيص التذييلِ به دون قرينةٍ من الاعتناء بشأن المغفرةِ والرحمةِ ما لا يخفى. اهـ..قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَالله سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَالله وَلِيُّهُمَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ الله إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ الله الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)}.التفسير: أنه سبحانه لما وعدهم النصر على الأعداء إن هم صبروا واتقوا وخلاف ذلك إن لم يصبروا، أتبعه قوله: {وإذا غدوت من أهلك} {ولقد نصركم الله ببدر} يعني أنهم يوم أحد كانوا كثيرين مستعدين للقتال، فلما خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم انهزموا، ويوم بدر كانوا قليلين غير متسعدين لكنهم أطاعوا أمر الرسول فغلبوا واستولوا على خصومهم. ووجه آخر في النظر وهو أن الانكسار يوم أحد إنما حصل بسبب تخلف عبد الله بن أبيّ بن سلول المنافق، وذلك يدل على أنه لا يجوز اتخاذ المنافقين بطانة. قال أبو مسلم: هذا كلام معطوف بالواو عل قوله: {قد كان لكم آية في فئتين التقتا} [آل عمران: 13] أي قد كان لكم مثل تلك الآية إذ غدا الرسول يبوئ المؤمنين. والجمهور على أنه منصوب بإضمار اذكر وعن الحسن أن هذا الغدو كان يوم بدر.وعن مجاهد أنه يوم الأحزاب. وأكثر العلماء بالمغازي على أن هذه الآية نزلت في واقعة أحد. وهو قول ابن عباس والسدي وابن إسحق والربيع والأصم وأبي مسلم.روي أن المشركين أن نزلوا بأحد يوم الأربعاء، فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ودعا صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبيّ ولم يدعه قط قبلها فاستشاره. فقال عبد الله وأكثر الأنصار: يا رسول الله أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدوّ قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فكيف وأنت فينا؟ فدعهم فإن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة، وإن رجعوا رجعوا خائبين. وقال بعضهم: يا رسول الله اخرج بنا إلى هؤلاء إلا كلب لا يرون أنا قد جبنا عنهم. وقال صلى الله عليه وسلم: إني رأيت في منامي بقرًا مذبحة حولي فأوّلتها خيرًا، أو رأيت في ذباب سيفي ثلمًا فأولته هزيمة، ورأيت كأني أدخلت يدي في درع حصينة فأوّلتها المدينة. فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم، فقال رجال من المسلمين- قد فاتتهم بدر وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد-: اخرج بنا إلى أعدائنا فلم يزالوا به صلى الله عليه وسلم حتى دخل فلبس لأمته. فلما رأوه قد لبس لأمته ندموا وقالوا: بئسما صنعنا، نشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي يأتيه. فقالوا: اصنع يا رسول الله ما رأيت. فقال: لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل. فخرج يوم الجمعة بعد صلاة الجمعة من المدينة. قالوا من منزل عائشة وهو المراد بقوله: {من أهلك}. اهـ..من لطائف وفوائد المفسرين: .من لطائف القشيري في الآيتين: قال عليه الرحمة:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)}.الإله من له الأمر والنهي، فلمَّا لم يكن له في الإلهية نظير لم يكن له- صلى الله عليه وسلم- من الأمر والنهي شيء.ويقال جرَّده- بما عرَّفه وخاطبه- عن كلِّ غيرٍ ونصيب ودعوى، حيث أخبر أنه ليس له من الأمر شيء، فإذا لم يَجُزْ أن يكون لسيِّد الأولين والآخرين شيء من الأمر فَمَنْ نزلت رتبتُه عن منزلته فمتى يكون له شيء من الأمر؟ويقال استأثر (بِسَتْرِ عباده في حكمه) فقال أنا الذي أتوب على من أشاء من عبادي وأعذِّب من أشاء، والعواقب عليك مستورة، وإنك- يا محمد- لا تدري سرى فيهم.ويقال أقامه في وقتٍ مقامًا فقالت: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} [الأنفال: 17] رمى بقبضة من التراب فأصاب جميع الوجوه، وقال له في وقت آخر: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيءٌ} ثم زاد في البيان فقال: {وَللهِ مَا في السَّمَواتِ وَمَا في الأَرْضِ}. فإذا كان المُلْك ملكه، والأمر أمره، والحكم حكمه- فَمَنْ شاء عذَّبه، ومن شاء قرَّبه، ومن شاء هداه، ومن شاء أغواه. اهـ..من فوائد صاحب المنار: قال رحمه الله:{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ}.إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَعَشَرَاتٍ بَعْدَهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ غَزْوَةِ أُحُدٍ وَيَتَوَقَّفُ فَهْمُهَا عَلَى الْوُقُوفِ عَلَى قِصَّةِ تِلْكَ الْغَزْوَةِ وَلَوْ إِجْمَالًا. فَوَجَبَ لِذَلِكَ أَنْ نَأْتِيَ قَبْلَ تَفْسِيرِهَا مَا يُعِينُ الْقَارِئَ عَلَى فَهْمِهَا وَيُبَيِّنُ لَهُ مَوَاقِعَ تِلْكَ الأخبار وَمَا فِيهَا مِنَ الْحِكَمِ وَالْأَحْكَامِ، فَنَقُولُ:غَزْوَةُ أُحُدٍ لَمَّا خَذَلَ اللهُ الْمُشْرِكِينَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَرَجَعَ فُلُّهُمْ إِلَى مَكَّةَ مَقْهُورِينَ مَوْتُورِينَ نَذَرَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ أَلَّا يُمِسَّ رَأْسَهُ مَاءً مِنْ جَنَابَةٍ حَتَّى يَغْزُوَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فَخَرَجَ فِي مِائَةِ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ حَتَّى أَتَى بَنِي النَّضِيرِ لَيْلًا وَبَاتَ لَيْلَةً وَاحِدَةً عِنْدَ سَلَّامِ بْنِ مِشْكَمٍ الْيَهُودِيِّ سَيِّدِ بَنِي النَّضِيرِ وَصَاحِبِ كَنْزِهِمْ فَسَقَاهُ الْخَمْرَ وَبَطَّنَ لَهُ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ، ثُمَّ خَرَجَ فِي عَقِبِ لَيْلَتِهِ وَأَرْسَلَ أَصْحَابَهُ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ الْمَدِينَةِ. يُقَالُ لَهَا الْعُرَيْضُ، فَقَطَّعُوا وَحَرَّقُوا صُوَرًا مِنَ النَّخْلِ، وَرَأَوْا رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ وَحَلِيفًا لَهُ فَقَتَلُوهُمَا، وَنُذِرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَخَرَجَ فِي طَلَبِهِمْ، فَلَمْ يُدْرِكْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ فَرُّوا وَأَلْقَوْا سَوِيقًا كَثِيرًا مِنْ أَزْوَادِهِمْ يَتَخَفَّفُونَ بِهِ فَسُمِّيَتْ غَزْوَةُ السَّوِيقِ. وَكَانَتْ بَعْدَ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهَا قَبْلَ ذِكْرِ أُحُدٍ لِيَعْلَمَ الْقَارِئُ أَنَّ الْعُدْوَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَانَ مُتَّصِلًا مُتَلَاحِقًا!!.وَلَمَّا رَجَعَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى مَكَّةَ أَخَذَ يُؤَلِّبُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ بَعْدَ قَتْلِ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ فِي بَدْرٍ هُوَ السَّيِّدَ الرَّئِيسَ فِيهِمْ، لِذَلِكَ كَلَّمَهُ- فِي أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ- الْمَوْتُورُونَ مِنْ عُظَمَاءِ قُرَيْشٍ، كَعَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ لِيَبْذُلَ مَالَ الْعِيرِ الَّتِي كَانَ جَاءَ بِهَا مِنَ الشَّامِ فِي أَخْذِ الثَّأْرِ، فَرَضِيَ هُوَ وَأَصْحَابُ الْعِيرِ بِذَلِكَ، وَكَانَ مَالُ الْعِيرِ- كَمَا فِي السِّيرَةِ الْحَلَبِيَّةِ- خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ رَبِحَتْ مِثْلَهَا، فَبَذَلُوا الرِّبْحَ فِي هَذِهِ الْحَرْبِ، فَاجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ لِلْحَرْبِ حِينَ فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَخَرَجَتْ بِحَدِّهَا وَأَحَابِيشِهَا وَمَنْ أَطَاعَهَا مِنْ قَبَائِلِ كِنَانَةَ وَأَهْلِ تِهَامَةَ، فَكَانُوا نَحْوَ ثَلَاثَةِ آلَافٍ وَأَخَذُوا مَعَهُمْ نِسَاءَهُمُ الْتِمَاسَ الْحَفِيظَةِ وَأَلَّا يَفِرُّوا؛ فَإِنَّ الْفِرَارَ بِالنِّسَاءِ عَسِرٌ وَالْفِرَارَ دُونَهُنَّ عَارٌ، وَكَانَ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ- وَهُوَ الْقَائِدُ- زَوْجُهُ هِنْدُ ابْنَةُ عُتْبَةَ، فَكَانَتْ تُحَرِّضُ الْغُلَامَ وَحْشِيًّا الْحَبَشِيَّ الَّذِي أَرْسَلَهُ مَوْلَاهُ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ لِيَقْتُلَ حَمْزَةَ عَمَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِعَمِّهِ طُعْمَةَ بْنِ عَدِيٍّ الَّذِي قُتِلَ بِبَدْرٍ، وَقَدْ عَلَّقَ عِتْقَهُ عَلَى قَتْلِهِ. وَكَانَ هَذَا الْحَبَشِيُّ مَاهِرًا فِي الرَّمْيِ بِالْحَرْبَةِ عَلَى بُعْدٍ قَلَّمَا يُخْطِئُ، فَكَانَتْ هِنْدٌ كُلَّمَا رَأَتْهُ فِي الْجَيْشِ تَقُولُ لَهُ: وَيْهًا أَبَا دَسَمَةَ اشْفِ وَاشْتَفِ تُخَاطِبُهُ بِالْكُنْيَةِ تَكْرِيمًا لَهُ. وَذَكَرَ الْحَلَبِيُّ أَنَّهُمْ سَارُوا أيضا بِالْقِيَانِ وَالدُّفُوفِ وَالْمَعَازِفِ وَالْخُمُورِ.نَزَلَ أَبُو سُفْيَانَ بِجَيْشِهِ قَرِيبًا مِنْ أُحُدٍ فِي مَكَانٍ يُقَالُ لَهُ عِينِينَ عَلَى شَفِيرِ الْوَادِي مُقَابِلَ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَوَّالٍ مِنَ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ. فَلَمَّا عَلِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ اسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ كَعَادَتِهِ أَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ أَمْ يَمْكُثُ فِي الْمَدِينَةِ؟ وَكَانَ رَأْيُهُ هُوَ أَنْ يَتَحَصَّنُوا بِالْمَدِينَةِ فَإِنْ دَخَلَهَا الْعَدُوُّ عَلَيْهِمْ قَاتَلُوهُ عَلَى أَفْوَاهِ الْأَزِقَّةِ وَالنِّسَاءُ مِنْ فَوْقِ الْبُيُوتِ، وَوَافَقَهُ عَلَى هَذَا الرَّأْيِ أَكَابِرُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ- كَمَا فِي السِّيرَةِ الْحَلَبِيَّةِ- وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ، وَكَانَ هُوَ الرَّأْيَ. وَأَشَارَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ أَكْثَرُهُمْ مِنَ الْأَحْدَاثِ وَمِمَّنْ كَانَ فَاتَهُمُ الْخُرُوجُ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لِشِدَّةِ رَغْبَتِهِمْ فِي الْقِتَالِ فَمَا زَالُوا يُلِحُّونَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى دَخَلَ فَلَبِسَ لَأْمَتَهُ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَكَانَ قَدْ أَوْصَاهُمْ فِي خُطْبَتِهَا وَوَعَدَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ النَّصْرَ مَا صَبَرُوا، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِمْ وَقَدْ نَدِمَ النَّاسُ، وَقَالُوا: اسْتَكْرَهْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَكُنْ لَنَا ذَلِكَ، وَقَالُوا لَهُ: اسْتَكْرَهْنَاكَ وَلَمْ يَكُنْ لَنَا ذَلِكَ، فَإِنْ شِئْتَ فَاقْعُدْ فَقَالَ: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّهِ أَيْ لِمَا فِي فَسْخِ الْعَزِيمَةِ بَعْدَ أحكامها وَتَوْثِيقِهَا مِنَ الضَّعْفِ وَمَبَادِئِ الْفَشَلِ وَسُوءِ الْأُسْوَةِ. وَفِي سَحَرِ يَوْمِ السَّبْتِ خَرَجَ بِأَلْفٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَاسْتَعْمَلَ بِالْمَدِينَةِ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى عَلَى الصَّلَاةِ بِمَنْ بَقِيَ فِيهَا.فَلَمَّا كَانُوا بِالشَّوْطِ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَأُحُدٍ انْعَزَلَ عَنْهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ رَئِيسُ الْمُنَافِقِينَ بِنَحْوِ ثُلُثِ الْعَسْكَرِ (وَهُمْ 300) وَقَالَ: أَطَاعَهُمْ وَعَصَانِي- وَفِي رِوَايَةٍ أَطَاعَ الْوِلْدَانَ وَمَنْ لَا رَأْيَ لَهُ- فَمَا نَدْرِي عَلَامَ نَقْتُلُ أَنْفُسَنَا هَاهُنَا أَيُّهَا النَّاسُ، فَرَجَعَ بِمَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ قَوْمِ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالرَّيْبِ، فَتَبِعَهُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ أَخُو بَنِي سَلِمَةَ يَقُولُ: يَا قَوْمِ أُذَكِّرُكُمُ اللهَ أَلَّا تَخْذُلُوا قَوْمَكُمْ وَنَبِيَّكُمْ، تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا. قَالُوا: لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكُمْ تُقَاتِلُونَ لَمْ نَرْجِعْ وَلَكِنْ نَرَى أنه لَا يَكُونُ قِتَالٌ. وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ نَحْوَ ثُلُثِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ خَرَجُوا إِلَيْهِمْ فَأَمْسَوْا وَقَدْ ذَهَبَ مِنَ الثُّلُثِ نَحْوُ ثُلُثِهِ، وَهَمَّتْ بَنُو سَلِمَةَ مِنَ الْأَوْسِ وَبَنُو حَارِثَةَ مِنَ الْخَزْرَجِ أَنْ تَفْشَلَا فَعَصَمَهُمَا اللهُ تعالى.وَقَدْ كَانَ خُرُوجُ الْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ خَيْرًا لَهُمْ كَمَا قال تعالى فِي مِثْلِ ذَلِكَ يَوْمَ تَبُوكَ: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [9: 47] الْآيَةَ، وَإِنَّمَا ارْتَأَى عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ عَدَمَ الْخُرُوجِ لِيَكْتَفِيَ أَمْرَ الْقِتَالِ أَوْ خَطَرَهُ حِرْصًا عَلَى الْحَيَاةِ وَإِيثَارًا لَهَا عَلَى إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ. فَكَانَ عَلَى مُوَافَقَتِهِ لِلرَّسُولِ فِي الرَّأْيِ مُخَالِفًا لَهُ فِي سَبَبِهِ وَعِلَّتِهِ، فَالرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُرَاعِي فِي جَمِيعِ حُرُوبِهِ الَّتِي كَانَتْ كُلُّهَا دِفَاعًا قَاعِدَةَ ارْتِكَابِ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ وَأَبْعَدِ الأمريْنِ عَنِ الْعُدْوَانِ رَحْمَةً بِالنَّاسِ وَإِيثَارًا لِلسَّلَامِ، وَتَعَزَّزَ رَأْيُهُ الْمَبْنِيُّ عَلَى هَذِهِ السُّنَّةِ بِرُؤْيَا رَآهَا قَبْلَ ذَلِكَ- وَكَأن لا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ- رأى أَنَّ فِي سَيْفِهِ ثُلْمَةً وَرأى أَنَّ بَقَرًا تُذْبَحُ وَأَنَّهُ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ، فَتَأَوَّلَ الثُّلْمَةَ فِي سَيْفِهِ بِرَجُلٍ يُصَابُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ حَمْزَةَ عَمَّهُ رضي الله عنه وَتَأَوَّلَ الْبَقَرَ بِنَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يُقْتَلُونَ، وَتَأَوَّلَ الدِّرْعَ بِالْمَدِينَةِ.وَلَكِنَّهُ عَلَى هَذَا كُلِّهِ عَمِلَ بِرَأْيِ الْجُمْهُورِ مِنْ أَصْحَابِهِ إِقَامَةً لِقَاعِدَةِ الشُّورَى الَّتِي أَمَرَهُ اللهُ بِهَا وَهُوَ لَمْ يُخَالِفْ بِذَلِكَ قَاعِدَةَ ارْتِكَابِ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ بَلْ جَرَى عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ مُخَالَفَةَ رَأْيِ الْجُمْهُورِ وَلَوْ إِلَى خَيْرِ الأمريْنِ هَضْمٌ لِحَقِّ الْجَمَاعَةِ وَإِخْلَالٌ بِأَمْرِ الشُّورَى الَّتِي هِيَ أَسَاسُ الْخَيْرِ كُلِّهِ، وَإِنَّمَا كَأن يكون الْمُكْثُ فِي الْمَدِينَةِ خَيْرًا مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْعَدُوِّ فِي أُحُدٍ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُخِلًّا بِقَاعِدَةِ الشُّورَى- كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ- فَكَيْفَ تَرَكَ الْمُسْلِمُونَ هَذَا الْهَدْيَ النَّبَوِيَّ الْأَعْلَى وَرَضُوا بِأن يكون مُلُوكُهُمْ وَأُمَرَاؤُهُمْ مُسْتَبِدِّينَ بِالْأَحْكَامِ وَالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ يُدِيرُونَ دُوَلًا بِهَا بِأَهْوَائِهِمُ الَّتِي لَا تَتَّفِقُ مَعَ الدِّينِ وَلَا مَعَ الْعَقْلِ؟وَسَأَلَ قَوْمٌ مِنَ الْأَنْصَارِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَسْتَعِينُوا بِحُلَفَائِهِمْ مِنَ الْيَهُودِ فَأَبَى، وَكَانَ فِي الْحَقِيقَةِ ضِلْعُ الْيَهُودِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَلَمْ يَكُونُوا فِي عُهُودِهِمْ بِمُوفِينَ.
|