الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
والشهادة تتطلب أمرين: الأول هو حضور الشاهد لحظة وقوع المشهود به، والثاني هو أمانة النقل، ولذلك جعل الله في بعض الأحكام شهادة اثنتين من النساء تعدل شهادة رجل واحد. وقد يقول قائل: كيف يساوي الإسلام بين شهادة رجل جاهل أو أمي وشهادة امرأتين قد تكون كل منهما على درجة عالية من الثقافة والعلم؟ونقول: إن المسألة في الشهادة ليست عمل عقلٍ، ولكنها أمانة نقل، وأمانة النقل لا شأن لها بالثقافة، فالشهادة تحتاج إلى حضور الحادثة، ثم إن المرأة يكون دائمًا أمرها مبنيًا على الستر وعدم التهجم على الرجال. فقد تقع حادثة وتوجد امرأة بجانب هذه الحادثة، وبطبيعة الحال لن تتجاسر وتتقدم وتسأل لمعرفة كل التفاصيل، على العكس من الرجل الذي يرى الحادثة، فيحاول أن يعرف كل ما جرى. وحين أراد الحق الشهادة من امرأتين، لم يطلب ذلك لضعف الثقة في المرأة أو زيادة الثقة في الرجل، ولكن لأن الشهادة ليست ابتكار عقل ولكنها حضور مشهد وأمانة نقل.إن البعض يحاول أن يروج لمثل هذه القضايا وكأنها وسيلة للتهجم على بعض الداعين لله، ولذلك أقول لهم: يجب أن يفهم الإنسان منكم الفارق بين عداوته مع بعض الداعين إلى الله وأن يتعدى حدوده إلى أن يحاد الله؛ لأن الإنسان منهم لا يرد الحكم على الداعية، وإنما يرد الحكم على الله.وأمر الحق سبحانه في شهادة اثنين من الرجال أن يؤديا الصلاة، ثم يتم حبسهما لفترة، وبعد ذلك يتم استدعاؤهما للشهادة، فإن رد أهل الميت شهادتهما في أمر الوصية فيتم استدعاء اثنين من أولياء الميت لأداء الشهادة في شأن الوصية، كل ذلك لماذا؟ من أجل أن تأتي الشهادة على وجهها الصحيح الذي يُظهر كلَّ الحقيقة.ويذيل الحق القول الكريم: {واتقوا الله واسمعوا والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} وذلك بلاغ للمؤمنين كافة وإلى الناس عامة؛ لأن الله لا يهدي إلا من تطامن إلى منهج الله، أما من يفسق فلن يعينه الله، ذلك أن الله لا يعين كافرًا ولا ظالمًا ولا فاسقًا. أما من آمن بالله، فالحق سبحانه وتعالى يعينه على هذا المنهج ويهديه إلى الصراط المستقيم.ولماذا أنزل الله هذه الآيات بعد أن أجرى الأحداث التي تتطلبها؟ نعرف أن الحكم إن نزل في ظرف يتطلبه، تكون النفس إليه أشوق وبه أعلق، مثال ذلك: كوب الماء الذي يتناوله العطشان، إنه يتناوله بشوق ولهفة. عكس الإنسان الذي يتناول كوب الماء وهو غير عطشان، فقد يضعه في مكان قريب منه دون أن يشربه، وكذلك الدواء الذي يُؤتى به للمريض لحظة معاناته القصوى من المرض، إنه يقبل عليه بلهفة مهما كان مر الطعم، وهكذا جاءت بعض أحكام القرآن مناسبة لأحداث وقعت لتكون اللهفة على التطبيق موجودة في النفوس المؤمنة. اهـ.
.من فوائد ابن جزي في الآيات السابقة: قال عليه الرحمة:{شهادة بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت حِينَ الوصية اثنان}.قال مكي: هذه الآية أشكل آية من القرآن إعرابًا، ومعنى، وحكمًا، ونحن نبين معناها على الجملة، ثم نبين أحكامها وإعرابها على التفصيل، وسببها أنّ رجلين خرجا إلى الشام، وخرج معهما رجل آخر بتجارة، فمرض في الطريق فكتب كتابًا قيد فيه كل ما معه، وجعله في متاعه وأوصى الرجلين أن يؤديا رحله إلى ورثته فمات فقدم الرجلان المدينة، ودفعا رحله إلى ورثته، فوجودوا فيه كتابه وفقدوا منه أشياء قد كتبها، فسألوهما فقالا لا ندري هذا الذي قبضناه، فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبقي الأمر مدّة، ثم عثر على إناء عظيم من فضة، فقيل لمن وجده عنده من أين لك هذا، فقال اشتريته من فلان وفلان، يعني الرجلين، فارتفع الأمر في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من أولياء الميت أن يحلفا فحلفا واستحقا، فمعنى الآية: إذا حضر الموت أحد في السفر، فليشهد عدلين بما معه، فإن وقعت ريبة في شهادتهما حلفا أنهما ما كذبا ولا بدّلا، فإن عثر بعد ذلك على أنهما كذبا أو خانا حلف رجلان من أولياء الميت، وغرم الشاهدان ما ظهر عليهما إعراب الآية، وشهادة بينكم مرفوع بالابتداء وخبره: اثنان التقدير شهادة بينكم شهادة اثنين أو مقيم ضهادة بينكم اثنان إذا حضر أي قارب الحضور، والعامل في إذا المصدر الذي هو شهادة، وهذا على أن يكون بمنزلة حين لا تحتاج جوابًا، ويجوز أن تكون شرطية، وجوابها محذوف يدل عليه ما تقدم قبلها فإنّ المعنى: إذا حضر أحدكم الموت، فينبغي أن يشهد حين الوصية، ظرف العامل فيه حصر، ويكون بدلًا من إذا {ذَوَا عَدْلٍ} صفة للشاهدين منكم {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} قيل: معنى منكم من عشيرتكم وأقاربكم، ومن غيركم، من غير العشيرة والقرابة وقال الجمهور: منكم أي من المسلمين، ومن غيركم من الكفار، إذا لم يوجد مسلم، ثم اختلف على هذا هل هي منسوخة بقوله: وأشهدوا ذوي عدل منكم فلا تجوز شهادة الكفار أصلًا؟ وهو قول مالك والشافعي والجمهور أو هي محكمة، وأن شهادة الكفار جائزة على الوجه في السفر، وهو قول ابن عباس {إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرض} أي سافرتم، وجواب إن محذوف يدل عليه ما تقدّم قبلها، والمعنى: إن ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت، فشهادة بينكم شهادة اثنين {تَحْبِسُونَهُمَا} قال أبو علي الفارسي: هو صفة لآخران، واعتراض بين الصفة والموصوف بقوله: إن أنتم إلى قوله الموت ليفيد أن العدول إلى آخرين من غير الملة، إنما يجوز لضرورة الضرب في الأرض، وحلول الموت في السفر، وقال الزمخشري: تحبسونهما استئناف كلام {مِن بَعْدِ الصلاة} قال الجمهور: هي صلاة العصر، فاللام للعهد، لأنها وقت اجتماع الناس، وبعدها أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالأيمان، وقال: من حلف على سلعة بعد صلاة العصر، وكان التحليف بعدها معروف عندهم، وقال ابن عباس: هي صلاة الكافرين في دينهما؛ لأنهما لا يعظمان صلاة العصر {فَيُقْسِمَانِ بالله} أي يحلفان؛ ومذهب الجمهور أن تحليف الشاهدين منسوخ، وقد استحلفهما عليّ بن أبي طالب وأبو موسى الأشعري {إِنِ ارتبتم} أي شككتم في صدقهما أو أمانتهما، وهذه الكلمة اعتراض بين القسم والمقسوم عليه، وجواب إن محذوف يدل عليه يقسمان {لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا} هذا هو المقسوم عليه، والضمير في به للقسم، وفي كان للمقسم له: أي لا نستبدل بصحة القسم بالله عرضًا من الدنيا: أي لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال، ولو كان من نقسم له قريبًا لنا، وهذا لأن عادة الناس الميل إلى أقاربهم {وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله} أي: الشهادة التي أمر الله بحفظها وأدائها، وإضافتها إلى الله تعظيمًا لها {فَإِنْ عُثِرَ على أَنَّهُمَا استحقا إِثْمًا} أي إن طلع بعد ذلك على أنهما فعلا ما أوجب إثما، والإثم الكذب والخيانة واستحقاقه الأهلية للوصف به {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} أي اثنان من أولياء الميت، يقومان مقام الشاهدين في اليمين {مِنَ الذين استحق عَلَيْهِمُ} أي من الذين استحق عليهم الإثم أو المال ومعناه من الذي جنى عليهم وهم أولياء الميت {الأوليان} تثية أولى بمعنى أحق: أي الأحقان بالشهادة لمعرفتهما، والأحقان بالمال: لقرابتهما، وهو مرفوع على أنه خبر ابتداء تقديره هما الأوليان، أو مبتدأ مؤخر تقديره الأوليان آخران يقومان، أو بدل من الضمير في يقومان، ومنع الفارسي أن يسند استحق إلى الأوليان، وأجازه ابن عطية، وأما على قراءة استحق بفتح التاء والحاء على البناء للفاعل، فالأوليان فاعل باستحق، ومعنى استحق على هذا أخذ المال وجعل يده عليه، والأوليان على هذا هما الشاهدان اللذان ظهرت خيانتهما: أي الأوليان بالتحليف والتعنيف والفضيحة، وقرئ الأولين جمع أول، وهو مخفوض على الصفة للذين استحق عليهم، أو منصوبًا بإضمار فعل ووصفهم بالأولية لتقدمهم على الأجانب في استحقاق المال وفي صدق الشهادة {فَيُقْسِمَانِ بالله لشهادتنا أَحَقُّ مِن شهادتهما} اي يحلف هذان الآخران أن شهادتهما أحق: أي أصح من شهادة الشاهدين الذين ظهرت خيانتهما {إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظالمين} أي إن اعتدينا، فإنا من الظالمين وذلك على وجه التبرئة ومثل قول الأولين إنا إذا لمن الآثمين {ذلك أدنى أَن يَأْتُواْ بالشهادة على وَجْهِهَا} الإشارة بذلك إلى الحكم الذي وقع في هذه القضية ومعنى أدنى: أقرب، وعلى وجهها أي كما وقعت من غير تغيير ولا تبديل أو يخافوا {أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أيمانهم} أي يخافوا أن يحلف غيرهم بعدهم فيفتضحوا. اهـ..من فوائد ابن كثير في الآيات السابقة: قال رحمه الله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ...} الآية.اشتملت هذه الآية الكريمة على حكم عزيز، قيل: إنه منسوخ رواه العَوْفي من ابن عباس. وقال حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم: إنها منسوخة. وقال آخرون- وهم الأكثرون، فيما قاله ابن جرير-: بل هو محكم؛ ومن ادعى النسخ فعليه البيان.فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ} هذا هو الخبر؛ لقوله: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} فقيل تقديره: «شهادة اثنين»، حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مَقَامه. وقيل: دل الكلام على تقدير أن يشهد اثنان.وقوله: {ذَوَا عَدْلٍ} وصف الاثنين، بأن يكونا عدلين.وقوله: {مِنْكُمْ} أي: من المسلمين. قاله الجمهور. قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: {ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} قال: من المسلمين. رواه ابن أبي حاتم، ثم قال: رُوي عن عُبيدة، وسعيد بن المسيب، والحسن، ومجاهد، ويحيى بن يَعْمُر، والسُّدِّي، وقتادة، ومُقاتل بن حَيَّان، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، نحو ذلك.قال ابن جرير: وقال آخرون: عني: ذلك {ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} أي: من حَي الموصي. وذلك قول روي عن عكرمة وعبيدة وعدّة غيرهما.وقوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا سعيد بن عَوْن، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا حبيب بن أبي عَمْرَة، عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس في قوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} قال: من غير المسلمين، يعني: أهل الكتاب.ثم قال: وروي عن عبيدة، وشُرَيْح، وسعيد بن المسيب، ومحمد بن سيرين، ويحيى بن يعمر، وعكرمة، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والشعبي، وإبراهيم النَّخَعِي، وقتادة، وأبي مِجْلزَ، والسُّديِّ، ومقاتل بن حيان، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، نحو ذلك.وعلى ما حكاه ابن جرير عن عكرمة وعبيدة في قوله: {مِنْكُمْ} أي: المراد من قبيلة الموصي، يكون المراد هاهنا: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أي: من غير قبيلة الموصي. وقد روى عن ابن أبي حاتم مثله عن الحسن البصري، والزهري، رحمهما الله.وقوله: {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ} أي: سافرتم، {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} وهذان شرطان لجواز استشهاد الذميين عند فقد المؤمنين، أن يكون ذلك في سفر، وأن يكون في وصية، كما صرح بذلك شريح القاضي.قال ابن جرير: حدثنا عمرو بن علي، حدثنا أبو معاوية ووَكِيع قالا حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن شريح قال: لا تجوز شهادة اليهودي والنصراني إلا في سفر، ولا تجوز في سفر إلا في وصية.ثم رواه عن أبي كُرَيْب، عن أبي بكر بن عياش، عن أبي إسحاق السَّبِيعي قال: قال شريح، فذكر مثله.وقد روي مثله عن الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله تعالى. وهذه المسألة من إفراده، وخالفه الثلاثة فقالوا: لا تجوز شهادة أهل الذمة على المسلمين. وأجازها أبو حنيفة فيما بين بعضهم بعضًا.وقال ابن جرير: حدثنا عمرو بن علي، حدثنا أبو داود، حدثنا صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري قال: مضت السنّة أنه لا تجوز شهادة كافر في حضر ولا سفر، إنما هي في المسلمين.وقال ابن زيد: نزلت هذه الآية في رجل توفي وليس عنده أحد من أهل الإسلام، وذلك في أول الإسلام، والأرض حرب، والناس كفار، وكان الناس يتوارثون بالوصية، ثم نُسخت الوصية وفرضت الفرائض، وعمل الناس بها.رواه ابن جرير، وفي هذا نظر، والله أعلم.
|