الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.[سورة المائدة: الآيات 46- 47] {وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47)}.قفيته مثل عقبته، إذا أتبعته، ثم يقال قفيته بفلان وعقبته به، فتعديه إلى الثاني بزيادة الباء فإن قلت: فأين المفعول الأول في الآية؟ قلت، هو محذوف والظرف الذي هو عَلى آثارِهِمْ كالسادّ مسدّه لأنه إذا قفى به على أثره فقد قفى به إياه، والضمير في آثارهم للنبيين في قوله: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا}. وقرأ الحسن: الإنجيل بفتح الهمزة فإن صح عنه فلأنه أعجمى خرج لعجمته عن زناة العربية، كما خرج هابيل وآجر وَمُصَدِّقًا عطف على محل {فِيهِ هُدىً} ومحله النصب على الحال وَهُدىً وَمَوْعِظَةً يجوز أن ينتصبا على الحال. كقوله: {مُصَدِّقًا} وأن ينتصبا مفعولا لهما، كقوله: {وَلْيَحْكُمْ} كأنه قيل. وللهدى والموعظة آتيناه الإنجيل، وللحكم بما أنزل اللَّه فيه من الأحكام. فإن قلت: فإن نظمت {هُدىً وَمَوْعِظَةً} في سلك مصدقا، فما تصنع بقوله وليحكم قلت: أصنع به ما صنعت بهدى وموعظة حين جعلتهما مفعولا لهما، فأقدّر: وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل اللَّه آتيناه إياه. وقرئ: وليحكم على لفظ الأمر بمعنى: وقلنا ليحكم. وروى في قراءة أبى: وأن ليحكم، بزيادة «أن» مع الأمر على أنّ «أن» موصولة بالأمر، كقولك: أمرته بأن قم كأنه قيل: وآتيناه الإنجيل وأمرنا بأن يحكم أهل الإنجيل. وقيل: إن عيسى عليه السلام كان متعبدًا بما في التوراة من الأحكام لأن الإنجيل مواعظ وزواجر والأحكام فيه قليلة. وظاهر قوله: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} يردّ ذلك، وكذلك قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجًا} وإن ساغ لقائل أن يقول: معناه: وليحكموا بما أنزل اللَّه فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة..[سورة المائدة: آية 48] {وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجًا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)}.فإن قلت: أى فرق بين التعريفين في قوله وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ وقوله لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ؟ قلت: الأول تعريف العهد، لأنه عنى به القرآن. والثاني تعريف الجنس، لأنه غنى به جنس الكتب المنزلة: ويجوز أن يقال: هو للعهد لأنه لم يرد به ما يقع عليه اسم الكتاب على الإطلاق وإنما أريد نوع معلوم منه، وهو ما أنزل من السماء سوى القرآن وَمُهَيْمِنًا ورقيبا على سائر الكتب لأنه يشهد لها بالصحة والثبات. وقرئ {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} بفتح الميم، أى هو من عليه بأن حفظ من التغيير والتبديل، كما قال: {لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} والذي هيمن عليه اللَّه عزّ وجلّ أو الحفاظ في كل بلد، لو حُرِّف حَرْف منه أو حركة أو سكون لتنبه عليه كل أحد، ولاشمأزوا رادّين ومنكرين. ضمن وَلا تَتَّبِعْ معنى ولا تنحرف فلذلك عدّى بعن كأنه قيل: ولا تنحرف عما جاءك من الحق متبعا أهواءهم لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ أيها الناس شِرْعَةً شريعة. وقرأ يحيى بن وثاب بفتح الشين وَمِنْهاجًا وطريقا واضحا في الدين تجرون عليه.وقيل: هذا دليل على أنا غير متعبدين بشرائع من قبلنا لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً جماعة متفقة على شريعة واحدة، أو ذوى أمة واحدة أى دين واحد لا اختلاف فيه وَلكِنْ أراد لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ من الشرائع المختلفة، هل تعملون بها مذغنين معتقدين أنها مصالح قد اختلفت على حسب الأحوال والأوقات، معترفين بأن اللَّه لم يقصد باختلافها إلا ما اقتضته الحكمة؟ أم تتبعون الشبه وتفرطون في العمل؟ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ فابتدروها وتسابقوا نحوها إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ استئناف في معنى التعليل لاستباق الخيرات فَيُنَبِّئُكُمْ فيخبركم بما لا تشكون معه من الجزاء الفاصل بين محقكم ومبطلكم، وعاملكم ومفرطكم في العمل..[سورة المائدة: آية 49] {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49)}.فإن قلت: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ معطوف على ما ذا؟ قلت: على: {الْكِتابَ} في قوله: {وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ} كأنه قيل: وأنزلنا إليك أن احكم على أنّ «أن» وصلت بالأمر، لأنه فعل كسائر الأفعال: ويجوز أن يكون معطوفا على: {بِالْحَقِّ} أى أنزلناه بالحق وبأن احكم أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ أن يضلوك عنه ويستزلوك: وذلك أن كعب بن أسيد وعبد اللَّه بن صوريا وشاس بن قيس من أحبار اليهود قالوا: اذهبوا بنا إلى محمد نفتنه عن دينه، فقالوا: يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود، وأنا إن اتبعناك اتبعتنا اليهود كلهم ولم يخالفونا، وإنّ بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم إليك فتقضى لنا عليهم، ونحن نؤمن بك ونصدّقك، فأبى ذلك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فنزلت. فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الحكم بما أنزل اللَّه إليك وأرادوا غيره فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ يعنى بذنب التولي عن حكم اللَّه وإرادة خلافه، فوضع بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ موضع ذلك وأراد أنّ لهم ذنوبًا جمة كثيرة العدد، وأنّ هذا الذنب مع عظمه بعضها وواحد منها، وهذا الإيهام لتعظيم التولي واستسرافهم في ارتكابه. ونحو البعض في هذا الكلام ما في قول لبيد:أراد نفسه: وإنما قصد تفخيم شأنها بهذا الإبهام، كأنه قال: نفسا كبيرة، ونفسًا أىّ نفس، فكما أن التنكير يعطى معنى التكبير وهو معنى البعضية، فكذلك إذا صرح بالبعض لَفاسِقُونَ المتمرّدون في الكفر معتدون فيه، يعنى أنّ التولي عن حكم اللَّه من التمرّد العظيم والاعتداء في الكفر. .[سورة المائدة: آية 50] {أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)}.أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ فيه وجهان، أحدهما: أنّ قريظة والنضير طلبوا إليه أن يحكم بما كان يحكم به أهل الجاهلية من التفاضل بين القتلى: وروى أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال لهم «القتلى بواء» فقال بنو النضير: نحن لا نرضى بذلك فنزلت: والثاني: أن يكون تعبيرًا لليهود بأنهم أهل كتاب وعلم، وهم يبغون حكم الملة الجاهلية التي هي هوى وجهل، لا تصدر عن كتاب ولا ترجع إلى وحى من اللَّه تعالى: وعن الحسن: هو عامّ في كل من يبغى غير حكم اللَّه: والحكم حكمان: حكم بعلم فهو حكم اللَّه، وحكم بجهل فهو حكم الشيطان. وسئل طاوس عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض، فقرأ هذه الآية: وقرئ:تبغون، بالتاء والياء: وقرأ السلمى: أفحكم الجاهلية يبغون، برفع الحكم على الابتداء، وإيقاع يبغون خبرًا وإسقاط الراجع عنه كإسقاطه عن الصلة في: {أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} وعن الصفة في: الناس رجلان: رجل أهنت، ورجل أكرمت. وعن الحال في «مررت بهند يضرب زيد» وقرأ قتادة {أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ} على أنّ هذا الحكم الذي يبغونه إنما يحكم به أفعى نجران، أو نظيره من حكام الجاهلية، فأرادوا بسفههم أن يكون محمد خاتم النبيين حكما كأولئك الحكام. اللام في قوله: {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} للبيان كاللام في: {هَيْتَ لَكَ} أى هذا الخطاب وهذا الاستفهام لقوم يوقنون، فإنهم الذين يتيقنون أن لا أعدل من اللَّه ولا أحسن حكما منه. اهـ..قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)}.التفسير: منّ الله تعالى على نبينا صلى الله عليه وسلم بإنزال القرآن إليه مصدقًا لما بين يديه من الكتاب أي جنسه وهو كل كتاب سوى القرآن نازل من السماء. وفي المهيمن قولان: قال الخليل وأبو عبيدة: هيمن على الشيء يهيمن إذا كان رقيبًا على الشيء وشاهدًا ومصدقًا. وقال الجوهري: أصله أأمن بهمزتين قلبت الثانية ياء لكراهة اجتماع الهمزتين، ثم الأولى هاء كما في هرقت وهياك. والمعنى إنه أمين على الكتب التي قبله لأنه لا ينسخ ألبتة ولا يحرف لقوله: {وإنا له لحافظون} [الحجر: 9] ومن هنا قرئ: {ومهيمنًا عليه} فتح الميم أي هو من عليه بأن حوفظ من التغيير والتبديل، والذي هيمن عليه عز وجل كما قلنا، أو الحفاظ في كل بلد والقراء المشهود لهم بالإجادة {فاحكم بينهم} بين اليهود بالقرآن {ولا تتبع أهواءهم} منحرفًا {عما جاءك من الحق} أو ضمن لا تتبع معنى لا تحزن. قيل: لولا جواز المعصية على الأنبياء لم يجز هذا النهي. والجواب أن ذلك مقدور له ولكن لا يفعله لمكان النهي. أو الخطاب له والمراد غيره {لكل جعلنا منكم} أيها الناس أو الأمم أمة موسى وأمة عيسى وأمة محمد صلى الله عليه وسلم لتقدم ذكر الثلاث {شرعة ومنهاجًا} قال ابن السكيت: الشرع مصدر شرعت الإهاب إذا شققته وملحته. وقيل: إنه من الشروع في الشيء الدخول فيه، والشرعة مصدر للهيئة بمعنى الشريعة «فعلة» بمعنى «مفعولة» وهي الأمور التي أوجب الله تعالى على المكلفين أن يشرعوا فيها والمنهاج الطريق الواضح وهما عبارتان عن معبر واحد هو الدين والتكرير للتأكيد.ويحتمل أن يقال: الشريعة عامة والمنهاج مكارم الشريعة، فالأولى أقدم وهذه تتلوها وهي الطريقة. وقال المبرد: الشريعة ابتداء الطريق والطريقة المنهاج المستمر {ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة} جماعة متفقة على شريعة واحدة أو ذوي أمة واحدة أي دين واحد لا خلاف فيه. وفيه دليل على أن الكل بمشيئة الله تعالى. والمعتزلة حملوه على مشيئته الإلجاء {ولكن ليبلوكم} أي جعلكم مختلفين متخالفين ليعاملكم معاملة المختبر هل تعملون بالنواميس الإلهية وتذعنون للعقائد الحقة أم تقصرون في العمل وتتبعون الشبه ولذلك قال: {فاستبقوا الخيرات} سارعوا إليها وتسابقوا نحوها. ويعني بالخيرات هاهنا ما هو الحق من الاعتقادات والمحقق من التكاليف. ثم علّل الاستئناف بقوله: {إلى الله مرجعكم جميعًا فينبئكم} فيخبركم بما لا تشكون معه من الجزاء الفاصل بين المحق والمبطل والعام والمقصر. والمراد أن الأمر سيؤل إلى ما يحصل معه اليقين من مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته {وأن احكم} قيل معطوف على {الكتاب} أي وأنزلنا إليك أن احكم على أن «أن» المصدرية وصلت بالأمر لأنه فعل كسائر الأفعال، أو على قوله: {بالحق} أي أنزلناه بالحق وبأن احكم. وأقول: يحتمل أن تكون «أن» مفسرة وفعل الأمر محذوف أي وأمرناك أن احكم. وتكرار الأمر بالحكم إما للتأكيد وإما لأنهما حكمان لأنهم احتكموا إليه في زنا المحصنين ثم احتكموا في قتل كان بينهم. وزعم بعض الأئمة أن هذه الآية ناسخة للتخيير في قوله: {فاحكم بينهم أو أعرض} وعن ابن عباس أن جماعة من اليهود منهم كعب بن أسيد وعبد الله بن صوريا وشماس بن قيس من أحبار اليهود قالوا: اذهبوا بنا إلى محمد صلى الله عليه وسلم لعلنا نفتنه عن دينه. فأتوه فقالوا: يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وأشرافهم وأنا إن اتبعناك اتبعنا اليهود ولم يخالفونا، وإن بيننا وبين قوم خصومة ونحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ونحن نؤمن بك ونصدقك، فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل فيهم: {واحذرهم أن يفتنوك} محله نصب على أنه مفعول له أي مخافة أن يفتنوك، أو على أنه بدل اشتمال من مفعول احذر. والمراد بالتفنة رده إلى أهوائهم فكل من صرف من الحق إلى الباطل فقد فتن. قال بعض أهل العلم: في الآية دليل على أن الخطأ والنسيان جائزان على النبي صلى الله عليه وسلم، لأن التعمد في مثل هذا غير جائز فلم يبق إلاّ الخطأ والنسيان فلو لم يكونا جائزين أيضًا لم يكن للحذر فائدة، {فإن تولوا} عن الحكم المنزل أي فإن لم يقبلوا حكمك {فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم} أما الإصابة فالمراد بها قتلهم وإجلاؤهم، وأما ذكر بعض الذنوب فلأن مجازاتهم ببعض الذنوب كافية في إهلاكهم وتدميرهم، أو أراد بالبعض ذنب التولي عن حكم الله.وفيه أن لهم ذنوبًا جمة وأن هذا الذنب عظيم جدًا كقول لبيد:أراد نفسه وإنما قصد تفخيم شأنها بهذا الإبهام فكأنه قال نفسًا كبيرة لأن التنكير في معنى البعضية أيضًا. {لفاسقون} لمتمردون في الكفر. وفيه أن التولي عن حكم الله فسق مؤكد جدًا.ثم استفهم منكرًا لرأيهم فقال: {أفحكم الجاهلية يبغون} وفيه تعيير لليهود بأنهم أهل كتاب وعلم ومع ذلك يطلبون حكم الملّة الجاهلية التي هي محض الجهل وصريح الهوى. وقال مقاتل: إن قريظة والنضير طلبوا إليه أن يحكم بما كان يحكم به أهل الجاهلية من التفاصيل بين القتلى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القتلى بواء أي سواء. فقال بنو النضير: نحن لا نرضى بذلك فنزلت. وعن الحسن هو عام في كل من يبتغي غير حكم الله. وسئل طاوس عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض فتلا هذه الآية. واللام في قوله: {لقوم يوقنون} للبيان كلام في: {هيت لك} [يوسف: 23] أي هذا لخطاب وهذا الاستفهام لهم لأنهم الذين يعرفون أنه لا أحد أعدل من الله حكمًا ولا أحسن منه بيانًا. اهـ.
|