الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} أي: المن والفضل: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أي: المرجع والجزاء: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: ما يخاصم في حجج الله، وأدلته على وحدانيته بالإنكار لها، إلا الذين جحدوا توحيده، قال الزمخشري: سجل على المجادلين في آيات الله بالكفر. والمراد الجدال بالباطل، من الطعن فيها، والقصد إلى إدحاض الحق، وإطفاء نور الله. وقد دل على ذلك قوله: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [غافر: 5].فأما الجدال فيها، لإيضاح ملتبسها وحل مشكلها ومقارحة أهل العلم في استنباط معانيها، ورد أهل الزيغ بها وعنها، فأعظم جهاد في سبيل الله. وقوله صلّى الله عليه وسلم «جدال في القرآن كفر» وإيراده منكرًا، تمييز منه بين جدال وجدال. انتهى: {فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ} أي: للتجارات، وتمتعهم بالتجوال والترداد، فمآلهم إلى الزوال والنفاد.{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ} أي: الذين تحزبوا على الرسل، وناصبوهم: {مِن بَعْدِهِمْ} أي: من بعد سماع أخباهم، ومشاهدة أثارهم: {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} أي: ليتمكنوا منه، ومن الإيقاع به، وإصابته بما أرادوا من تعذيب، أو قتل، من الأخذ بمعنى الأسر، والأخيذ الأسير: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ} أي: قابلو حجج الرسل بالباطل من جدالهم: {لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} أي: ليزيلوا به الأمر الثابت بالحجة الصحيحة، لكنه لا يندحض وإن كثرت الشبه؛ لما أنه الثابت في نفسه المتقرر بذاته: {فَأَخَذْتُهُمْ} أي: العذاب الدنيوي المعروف أخباره، المشهود آثاره: {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} أي: في الدار، فيعتبر به عقاب تلك الدار.{وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} قال ابن جرير: أي: وكما حق على الأمم التي كذبت رسلها، التي قصصت عليك، يا محمد، قصصها، وحل بها عقابي. كذلك وجبت كلمة ربك على الذين كفروا بالله من قومك، الذين يجادلون في آيات الله؛ لأنهم أصحاب النار.ثم نوه بالمؤمنين، وبما أعدّ لهم، بقوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ} أي: من الملائكة. وقد سبق في تفسير آية: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]، في الأعراف، كلام في حملة العرش، فراجعه: {وَمَنْ حَوْلَهُ} يعني الملائكة المقرّبين: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} أي: ويقرون بأنه لا إله لهم سواه، ويشهدون بذلك لا يستكبرون عن عبادته. وفائدة التصريح بإيمانهم مع جلائه، وهو إظهار فضيلة الإيمان، وإبراز شرف أهله، والإشعار بعلة دعائهم للمؤمنين؛ حسبما ينطق به قوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} فإن المشاركة في الإيمان أقوى المناسبات وأتمها، وأدعى الدواعي إلى النصح والشفقة.وفي نظم استغفارهم لهم في سلك وظائفهم المفروضة عليهم، من تسبيحهم، وتحميدهم، وإيمانهم، إيذان بكمال اعتنائهم به، وإشعار بوقوعه عند الله تعالى في موقع القبول: {رَبَّنَا} أي: يقولون ربنا: {وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا} أي: شملت رحمتك، وأحاط بالكل علمك: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} أي: صراطك المستقيم بمتابعة نبيك في الأقوال، والأعمال، والأحوال: {وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} أي: عمل صالحًا منهم، ليتم سرورهم بهم: {إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} أي: عقوبتها وجزاءها: {وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} أي: لبغضه الشديد لكم، أعظم من بغض بعضكم لبعض، وتبرؤ كل من الآخر، ولعنه حين تعذبون، كما قال تعالى: {يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [العنكبوت: 25]، أو أعظم من مقتكم أنفسكم وذواتكم، فقد يمقتون أنفسهم حين تظهر لهم هيئاتها المظلمة، وصفاتها المؤلمة، وسواد الوجه الموحش، وقبح المنظر المنفر: {إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} أي: تدعون على ألسنة الرسل عليهم السلام، إلى الإيمان به سبحانه، فتكفرون كبرًا وعتوًّا.{قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} أي: أنشأتنا أمواتًا مرتين، وأحييتنا في النشأتين كما قال تعالى: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28]، قال قتادة: كانوا أمواتًا في أصلاب آبائهم، فأحياهم الله في الدنيا، ثم أماتهم الموتة التي لابد منها، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة. فهما حياتان وموتتان: {فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا} أي: فأقررنا بما علمنا من الذنوب في الدنيا، وذلك عند وقوع العقاب المرتب عليها، وامتناع المحيص عنه: {فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ} أي: فهل إلى خروجنا من النار، من سبيل، لنرجع إلى الدنيا فنعمل غير الذي كنا نعمل. قال الزمخشري: وهذا كلام من غلب عليه اليأس والقنوط. وإنما يقولون ذلك تعللًا وتحيرًا. ولهذا جاء الجواب على حسب ذلك. وهو قوله تعالى: {ذَلِكُم} أي: ذلكم الذي أنتم فيه من العذاب، وأن لا سبيل إلى خروج قط: {بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} أي: بسبب إنكاركم أن الألوهية له خالصة، وقولكم: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص: 5]، وإيمانكم بالشرك: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} أي: فالقضاء له وحده لا للغير. فلا سبيل إلى النجاة لعلوّه وكبريائه، فلا يمكن لأحد في المطبوع: أحدًا ردّ حكمته وعقابه: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ} أي: من الريح، والسحاب، والرعد، والبرق، والصواعق، ونحوها: {وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا} أي: مطرًا. وإفراده بالذكر من بين الآيات، لعظم نفعه، وتسبب حياة كل شيء عنه: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ} أي: وما يتعظ بآياته تعالى، إلا من يرجع إليه بالتوبة والإنابة.{فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي: فاعبدوه مخلصين له الدين، عن شوب الشرك {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} أي: غاظهم ذلك: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} أي: رفيع درجات عرشه كقوله: {ذِي الْمَعَارِجِ} [المعارج: 3]، وهي مصاعد الملائكة إلى أن تبلغ العرش. وهي دليل على عزته وملكوته، أو هو عبارة عن رفعة شأنه، وعلو سلطانه، وكمالاته، غير المتناهية: {ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ} أي: الوحي والعلم اللدني الذي تحيا به القلوب الميتة: {مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} أي: أهل عنايته الأزلية، واختصاصه للرسالة والنبوة: {لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} أي: يوم القيامة الكبرى، الذي يتلاقى فيه العبد بربه ليحاسبه على أعماله، أو العباد.{يَوْمَ هُم بَارِزُونَ} أي: من قبورهم، أو ظاهرون لا يسترهم شيء من جبل، أو بناء {لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ} أي: من أعمالهم، وأعيانهم، وأحوالهم. وقوله: {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} ينادي به الحق سبحانه، عند فناء الكل، أو وقت التلاقي، والبروز، فيجيب هو وحده: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ} أي: المتفرد بالملك: {الْقَهَّارِ} أي: الذي قهر بالغلبة كل ما سواه: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} أي: بإيصال ما يستحق كل منهم إليه، من تبعات سيئاته، وثمرات حسناته.{وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ} أي: الواقعة القريبة: {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ} أي: من أهواله ترتفع القلوب عن مقارّها، فتصير لدى الحلوق: {كَاظِمِينَ} أي: ممتلئين غمّا، بما أفرطوا من الظلم: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ} أي: قريب يهتمّ لشأنهم، فيخفف عنهم غمومهم: {وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} أي: من يشفع في تخفيفها عنهم؛ إذ لا تقبل شفاعة فيهم.{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} أي: نظراتها الخائنة، وهي الممتدة إلى ما لا يحل: {وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} أي: تكنّه من الضمائر والأسرار: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} أي: بالعدل: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} أي: لأنهم لا يقدرون على شيء: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}. اهـ.
|