الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قال القاضي أبو محمد: ومع هذا فالمخاطبة تبعده، ولو قال يا قوم إني بريء من الإشراك لصح هذا التأويل وقوي، فإن قلنا بأنه وقعت له القصة في الغار في حال الصبوة عدم التكليف على ما ذهب إليه بعض المفسرين ويحتمله اللفظ فذلك ينقسم على وجهين: إما أن يجعل قوله: {هذا ربي} تصميمًا واعتقادًا وهذا باطل لأن التصميم لم يقع من الأنبياء صلوات الله عليهم وإما أن يجعله تعريضًا للنظر والاستدلال كأنه قال هذا المنير البهي ربي إن عضدت ذلك الدلائل ويجيء إبراهيم عليه السلام كما قال الله تعالى لمحمد عليه السلام: {ووجدك ضالًا فهدى} [الضحى: 6] أي مهمل المعتقد، وإن قلنا بأن القصة وقعت له في حال كفره وهو مكلف فلا يجوز أن يقول: {هذا ربي} مصممًا ولا معرضًا للنظر، لأنها رتبة جهل أو شك وهو عليه السلام منزه معصوم من ذلك كله، فلم يبق إلا أن يقولها على جهة التقرير لقومه والتوبيخ لهم وإقامة الحجة عليهم في عبادة الأصنام، كأنه قال لهم: أهذا المنير ربي؟ أو هذا ربي وهو يريد على زعمكم؟ كما قال الله تعالى: {أين شركائي} [النحل: 27، القصص: 62- 74، فصلت: 47] فإنما المعنى على زعمكم، ثم عرض إبراهيم عليهم من حركته وأفوله أمارة الحدوث، وأنه لا يصلح أن يكون ربًّا ثم في آخر أعظم منه وأحرى كذلك ثم في الشمس كذلك، فكأنه يقول: فإذا بان في هذه المنيرات الرفيعة أنها لا تصلح للربوبية فأصنامكم التي هي خشب وحجارة أحرى أن يبين ذلك فيها، ويعضد عندي هذا التأويل قوله: {إني بريء مما تشركون} [الأنعام: 78] ومثل لهم بهذه الأمور لأنهم كانوا أصحاب علم نجوم ونظر في الأفلاك، وهذا الأمر كله إنما وقع في ليلة واحدة والكوكب وهو الزهرة، في قول قتادة وقال السدي وهو المشتري جانحًا للغروب، فلما أفل بزغ القمر وهو أول طلوعه فسرى الليل أجمع فلما بزغت الشمس زال ضوء القمر قبلها لانتشار الصباح وخفي نوره ودنا أيضًا من مغربه فسمي ذلك أفولًا لقربه من الأفول التام على تجوز في التسمية، ثم بزغت الشمس على ذلك، وهذا الترتيب يستقيم في الليلة الخامسة عشرة من الشهر إلى ليلة عشرين، وليس يترتب في ليلة واحدة كما أجمع أهل التفسير إلا في هذه الليالي، وبذلك التجوز في أفول القمر. اهـ.
أراد: أكذبتك؟ قال ابن الأنباري: وهذا القول شاذ، لأن حرف الاستفهام لا يضمر إذ كان فارقًا بين الإخبار والاستخبار؛ وظاهر قوله: {هذا ربي} أنه إشارة إلى الصانع.وقال الزجاج: كانوا أصحاب نجوم، فقال: هذا ربي، أي: هذا الذي يدبرني، فاحتج عليهم أن هذا الذي تزعمون أنه مدبر، لا نرى فيه إلا أثر مدَّبر. اهـ.
ويقال: جُنون الليل أيضًا.ويقال: جَنّه الليل وأجَنّه الليل، لغتان.{رَأَى كَوْكَبًا} هذه قصّة أخرى، غير قصّة عرض المَلَكوت عليه.فقيل: رأى ذلك من شَقّ الصخرة الموضوعة على رأس السَّرَب.وقيل: لما أخرجه أبوه من السَّرَب وكان وقت غيبوبة الشمسِ فرأى الإبلَ والخيلَ والغَنم فقال: لابد لها من رَبّ.ورأى المُشْتَرِي أو الزُّهْرة ثم القمرَ ثم الشمس، وكان هذا في آخر الشهر.قال محمد بن إسحاق: وكان ابن خمسَ عشرة سنة.وقيل: ابن سبع سنين.وقيل: لما حاجّ نمروذًا كان ابن سبع عشرة سنة.قوله تعالى: {قَالَ هذا رَبِّي} اختُلف في معناه على أقوال؛ فقيل: كان هذا منه في مُهْلة النظر وحال الطفُولِيّة وقبل قيام الحجة؛ وفي تلك الحال لا يكون كفر ولا إيمان.فاستدلّ قائلو هذه المقالة بما روي عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} فعبده حتى غاب عنه، وكذلك الشمس والقمر؛ فلما تَمّ نظره قال: {إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}.واستدل بالأفول؛ لأنه أظهرُ الآيات على الحدوث.وقال قوم: هذا لا يصحّ؛ وقالوا: غير جائز أن يكون لله تعالى رسولٌ يأتى عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله تعالى مُوَحِّد وبه عارف، ومِن كل معبود سواه بريء.قالوا: وكيف يصحّ أن يتوهّم هذا على مَن عصمه الله وأتاه رُشده من قبلُ، وأراه مَلكوته ليكون من المُوقِنِين، ولا يجوزُ أن يُوصف بالخُلُّو عن المعرفة، بل عرف الربَّ أوّل النظر.قال الزجاج: هذا الجواب عندي خطأ وغلط ممن قاله؛ وقد أخبر الله تعالى عن إبراهيم أنه قال: {واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام} [إبراهيم: 35] وقال جل وعز: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات: 84] أي لم يُشرك به قَطّ.قال: والجواب عندي أنه قال: {هَذَا رَبِّي} على قولكم؛ لأنهم كانوا يعبدون الأصنام والشمس والقمر؛ ونظير هذا قوله تعالى: {أَيْنَ شُرَكَائِي} وهو جل وعلا واحدٌ لا شريك له.والمعنى: أين شركائي على قولكم.وقيل: لما خرج إبراهيم من السَّرَب رأى ضوء الكوكب وهو طالب لربّه؛ فظن أنه ضوءه قال: {هذا ربي} أي بأنه يتراءى لي نوره.{فَلَمَّا أَفَلَ} علم أنه ليس بربّه.{فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا} ونظر إلى ضوئه {قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي} وليس هذا شركًا.إنما نَسب ذلك الضوءَ إلى ربّه فلما رآه زائلًا دَلّه العلم على أنه غير مستحقّ لذلك؛ فنفاه بقلبه وعلم أنه مَرْبُوب وليس بربّ.وقيل: إنما قال: {هذا ربّي} لتقرير الحجّة على قومه فأظهر موافقتهم؛ فلما أفَلَ النَّجم قرّر الحجة وقال: ما تغيّر لا يجوز أن يكون رَبًّا.وكانوا يعظّمون النجوم ويعبدونها ويحكمون بها.وقال النحاس: ومن أحسن ما قيل في هذا ما صحّ عن ابن عباس أنه قال في قول الله عز وجل: {نُّورٌ على نُورٍ} [النور: 35] قال: كذلك قلب المؤمن يعرف الله عز وجل ويستدلّ عليه بقلبه، فإذا عرفه ازداد نورًا على نور؛ وكذا إبراهيم عليه السلام عرف الله عز وجل بقلبه واستدلّ عليه بدلائله، فعلم أن له رَبًّا وخالقًا.فلما عرّفه الله عز وجل بنفسه ازداد معرفة فقال: {أَتُحَاجُّونِّي فِي الله وَقَدْ هَدَانِ}.وقيل: هو على معنى الاستفهام والتوبيخ، مُنْكِرًا لفعلهم.والمعنى أهذا ربي، أو مثل هذا يكون رَبًّا؟ فحذف الهمزة.وفي التنزيل {أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون} [الأنبياء: 34] أي أَفهُم الخالدون.وقال الهُذَلِيّ: آخر: وقيل: المعنى هذا ربي على زعمكم؛ كما قال تعالى: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص: 62].وقال: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49] أي عند نفسك.وقيل: المعنى أي وأنتم تقولون هذا رَبّي؛ فأضمر القول، وإضماره في القرآن كثير.وقيل: المعنى في هذا ربي؛ أي هذا دليل على رَبّي. اهـ.
|