الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال أبو السعود: {قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِبًا} أي كذبًا عظيمًا لا يُقادَر قدرُه {إِنْ عُدْنَا في مِلَّتِكُمْ} التي هي الشركُ، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ لدِلالة ما قبله عليه أي إن عدنا في ملتكم {بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا} فقد افترينا على الله كذبًا عظيمًا حيث نزعُم حينئذ أن لله تعالى نِدًا وليس كمثله شيءٌ وأنه قد تبين لنا أن ما كنا عليه من الإسلام باطلٌ وأن ما كنتم عليه من الكفر حقٌّ وأيُّ افتراءٍ أعظمُ من ذلك؟ وقيل: إنه جوابُ قسمٍ حذف عنه اللامُ تقديره والله لقد افترينا إلخ {وَمَا يَكُونُ لَنَا} أي وما يصِحّ وما يستقيم لنا {أَن نَّعُودَ فِيهَا} في حال من الأحوال أو في وقت من الأوقات {إِلاَّ أَن يَشَاء الله} أي إلا حالَ مشيئةِ الله تعالى أي وقتَ مشيئتِه تعالى لعَوْدنا فيها وذلك مما لا يكاد يكون كما ينبئ عنه قوله تعالى: {رَبَّنَا} فإن التعرضَ لعنوان ربوبيتِه تعالى لهم مما ينبئ عن استحالة مشيئتِه تعالى لارتدادهم قطعًا وكذا قوله تعالى: {بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا} فإن تنجيتَه تعالى لهم منها من دلائل عدمِ مشيئتِه لعَودِهم فيها وقيل: معناه إلا أن يشاء الله خِذلانَنا. وقيل: فيه دليلٌ على أن الكفرَ بمشيئته تعالى وأيًا ما كان فليس المرادُ بذلك بيانَ أن العودَ فيها في حيز الإمكانِ وخطرِ الوقوعِ بناءً على كون مشيئتِه تعالى كذلك بل بيانُ استحالةِ وقوعِها كأنه قيل: وما كان لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربُّنا وهيهاتَ ذلك بدليل ما ذُكر من موجبات عدم مشيئتِه تعالى له {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا} فهو محيطٌ بكل ما كان وما سيكون من الأشياء التي من جملتها أحوالُ عبادِه وعزائمُهم ونياتُهم وما هو اللائقُ بكل واحدٍ منهم فمُحالٌ من لطفه أن يشاء عَودَنا فيها بعد ما نجانا منها مع اعتصامنا به خاصةً حسبما ينطِق به قوله تعالى: {عَلَى الله تَوَكَّلْنَا} أي في أن يثبتَنا على ما نحن عليه من الإيمان ويُتمَّ علينا نعمتَه بإنجائنا من الإشراك بالكلية، وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقع الإضمارِ للمبالغة في التضرع والجُؤار، وقوله تعالى: {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق} إعراضٌ عن مقاولتهم إثرَ ما ظهر له عليه الصلاة والسلام أنهم من العتو والعِناد بحيث لا يُتصور منهم الإيمانُ أصلًا، وإقبالٌ على الله تعالى بالدعاء لفصل ما بينه وبينهم بما يليق بحال كلَ من الفريقين أي احكم بيننا بالحق، والفَتاحَةُ الحكومة، أو أظهرْ أمرنا حتى ينكشِفَ ما بيننا وبينهم ويتميز المُحقُّ من المبطِل من فتَحَ المُشكلَ إذا بيّنه {وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين} تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمون ما قبله على المعنيين. اهـ..قال الألوسي: {قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِبًا}.عظيمًا لا يقادر قدره.{إِنْ عُدْنَا في مِلَّتِكُمْ} التي هي الشرك وزعمنا كما زعمتم أن لله سبحانه ندًا تعالى عن ذلك علوًا كبير.{بَعْدَ إِذْ نَجَّيْنَا الله مِنْهَا} وعلمنا بطلانها وأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله أي إن عدنا في ملتكم فقد افترينا، واستشكل ذلك بأن الظاهر فيما إذا كان الجواب مثل ما ذكر أن يتعلق ظهوره والعلم به بالشرط نحو {إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} [يوسف: 77] و{إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله} [التوبة: 40] وإن أكرمتني اليوم فقد أكرمتك أمس، والمقصود هنا تقييد نفس الافتراء بالعود، ولفظ قد وصيغة الماضي يمنعانه، والجواب ما أشار إليه الزمخشري من أنه من باب الإخراج لا على مقتضى الظاهر وإيثار قد والماضي الدالين على التأكيد إما لأنه جواب قسم مقدر أو لأنه تعجيب على معنى ما أكذبنا أن عدنا الخ.ووجه التعجيب أن المرتد أبلغ في الافتراء من الكافر لأن الكافر مفتر على الله تعالى الكذب حيث يزعم أن لله سبحانه ندًا ولا ندله والمرتد مثله في ذلك وزائد عليه حيث يزعم أنه قد تبين له ما خفي عليه من التمييز بين الحق والباطل والحمل على التعجب على ما في الكشف أولى لأن حذف اللام ضعيف، وجوز أبو حيان تبعًا لابن عطية أن يكون الفعل المذكور قسمًا كما يقال برئت من الله تعالى إن فعلت كذا وكقول مالك بن الأشتر النخعي:وهذا نوع من أنواع البديع وقد ذكره غير واحد من أصحاب البديعيات، ومثله عز الدين الموصلي بقوله: والباعونية بقولها: {وَمَا يَكُونُ لَنَا} أي ما يصح لنا وما يقع فكيون تامة، وقد يأتي ذلك بمعنى ما ينبغي وما يليق.{أَن نَّعُودَ فِيهَا} في حال من الأحوال أو وقت من الأوقات {إِلا أَن يَشَاء الله رَبُّنَا} أي إلا حال أو وقت مشيئة الله لعودنا، والتعرض لعنوان الربوبية للتصريح بأنه المالك الذي لا يسأل عما يفعل.{وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا} فهو سبحانه يعلم كل حكمة ومصلحة ومشيئته على موجب الحكمة فكل ما يقع مشتمل عليها، وهذا إشارة إلى عدم الأمن من مكر الله سبحانه فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الكافرين، وفيه من الانقطاع إلى الله تعالى ما لا يخفى، ويؤكد ذلك قوله تعالى: {عَلَى الله تَوَكَّلْنَا} فإن التوكل عليه سبحانه إظهار العجز والاعتماد عليه جل شأنه، وأظهار الاسم الجليل للمبالغة، وتقديم المعمول لإفادة الحصر.وفي الآية دلالة على أن لله تعالى أن يشاء الكفر.وادعى شيخ الإسلام أن المراد استحالة وقوع ذلك كأنه قيل: وما كان لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله تعالى العود وهيهات ذلك، ولا يكاد يكون كما ينبئ عنه التعرض لعنوان الربوبية، وقولهم: {بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله} فإن تنجيته تعالى إياهم منها من دلائل عدم مشيئته سبحانه لعودهم فيها، وفرع على قوله تعالى: {واسع} إلخ بعد أن فسره بما فسره محالية مشيئته العود لكن لطفًا وهو وجه في الآية، ولعل ما ذهبت إليه فيها أولى، ولا يرد على تقدير العود مفعولًا للمشيئة أنه ليس لذلك سعة العلم بعد حينئذ كبير معنى، بل كان المناسب ذكر شمول الإرادة وأن الحوادث كلها بمشيئة الله تعالى لما لا يخفى، ولا يحتاج إلى القول بأن ذلك منه عليه السلام رد لدعوى الحصر باحتمال قسم ثالث، والزمخشري بني تفسيره على عقيدته الفاسدة من وجوب رعاية الصلاح والأصلح وأن الله تعالى لا يمكن أن يشار الكفر بوجه لخروجه عن الحكمة، واستدل بقوله سبحانه: {واسع} الخ، ورده ابن المنير بأن موقع ماذكر الاعتراف بالقصور عن علم العاقبة والاطلاع على الأمور الغائبة.ونظير ذلك قوله إبراهيم عليه السلام: {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبّى شَيْئًا وَسِعَ رَبّى كُلَّ شَيْء عِلْمًا} [الأنعام: 80] فإنه عليه السلام لما رد الأمر إلى المشيئة وهي مغيبة مجد الله تعالى بالانفراد بعلم الغائبات انتهى، وإلى كون المراد من الاستثناء التأبيد ذهب جعفر بن الحرث والزجاج أيضًا وجعلوا ذلك كقول الشاعر: وأنت خبير بأن ذلك مخالف للنصوص النقلية والعقلية وللعبارة والإشارة، وقال الجبائي.والقاضي: المراد بالملة الشريعة وفيها ما لا يرجع إلى الاعتقاد، ويجوز أن يتعبد الله تعالى عباده به ومفعول المشيئة العود إلى ذلك أي ليس لنا أن نعود إلى ملتكم إلا أن يشاء الله تعالى عودنا بأن يتعبدنا بها وينقلنا إليها وينسخ ما نحن فيه من الشريعة، وقيل: المراد إلا أن يشاء الله تعالى أن يمكنكم من إكراهنا ويخلي بينكم وبينه فنعود إلى أظهار ملتكم مكرهين، وقوى بسبق {أَوْ لَوْ كُنَّا كارهين} [الأعراف: 88].وقيل: إن الهاء في قوله سبحانه: {فِيهَا} يعود إلى القرية لا الملة فيكون المعنى أنا سنخرج من قريتكم ولا نعود فيها إلا أن يشاء الله بما ينجزه لنا من الوعد في الإظهار عليكم والظفر بكم فنعود فيها؛ وقيل: إن التقدير إلا أن يشاء الله أن يردكم إلى الحق فنكون جميعًا على ملة واحدة، ولا يخفى أن كل ذلك مما يضحك الثكلى، وبالجملة الآية ظاهرة فيما ذهب إليه أهل السنة وسبحانه من سد باب الرشد عن المعتزلة.{رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق} إعراض عن مفاوضتهم أثر ما ظهر من عتوهم وعنادهم وإقبال على الله تعالى بالدعاء والفتح بمعنى الحكم والقضاء لغة لحمير أو لمراد.والفتاح عندهم القاضي والفتاحة بالضم الحكومة.وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال: الفتح القضاء لغة يمانية.وأخرج البيهقي وجماعة عن ابن عباس قال: ما كنت أدري ما قوله: {رَبَّنَا افتح} حتى سمعت ابنة ذي يزن وقد جرى بيني وبينها كلام فقالت أفاتحك تريد أقاضيك و{بَيْنِنَا} منصوب على الظرفية والتقييد بالحق لإظهار النصفة، وجوز أن يكون مجازًا عن البيان والإظهار وإليه ذهب الزجاج، ومنه فتح المشكل لبيانه وحله تشبيهًا له بفتح الباب وإزالة الإغلاق حتى يوصل إلى ما خلفها وبيننا على ما قيل مفعولب به بتقدير ما بيننا {وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين} أي الحاكمين لخلو حكمك عن الجور والحيف أو المظهرين لمزيد علمك وسعة قدرتك والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله. اهـ. .قال القاسمي: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِبًا} أي: اختلفنا عليه باطلًا بأن له شريكًا {إِنْ عُدْنَا} إلى ترك دعوى الرسالة والإقرار بها، لندخل: {فِي مِلَّتِكُم} القائلة بأن له شريكًا.{بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا} فأرانا أنه كالإنجاء من النار.{وَمَا يَكُونُ} أي: ينبغي: {لَنَا أَن نَّعُودَ} أي: عن دعوى الرسالة والإقرار بها فنصير: {فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ رَبُّنَا} أي: الذي يربينا بما علم من استعدادنا، لأنه: {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} أي: فعلم استعداد كل واحد في كل وقت، لكن: {عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا} أي: لحفظنا عن المصير إليها: {رَبَّنَا} إن قصدوا إكراهنا عليها، أو إخراجنا من قريتهم: {افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} فغلبنا عليهم {وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} أي: خير الحاكمين، فلا تغلّب الظالمين وإن كثروا، على المظلومين إذا استفتحوك.تنبيهات:الأول: اعلم أن ظاهر قوله تعالى: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} وقوله: {بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا} يدل على أن شعيبًا عليه السلام كان على ملتهم قبل بعثته، ومعلوم عصمة الأنبياء عن الكبائر، فضلًا عن الشرك.
|