الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
لذلك استدلوا على ضعف النساء بقوله تعالى: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28] وما دام أن كيدهن عظيم، فضعفُهن أيضًا عظيم أو حتى أعظم.ثم قول تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمُ الأخسرين} [الأنبياء: 70] والأخسرون جمع أخسر، على وزن أفعل؛ ليلد على المبالغة في الخُسْران، وقد كانت خسارتهم في مسألة حَرْق إبراهيم من عِدَّة وجوه: أولًا أن إبراهيم عليه السلام لم يُصِبْه سوء رغم إلقائه في النار، ثم إنهم لم يَسْلَموا من عداوته، وبعد ذلك سيجازون على فِعْلهم، هذا في الآخرة، فأيُّ خُسْران بعد هذا؟ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى}.{وَنَجَّيْنَاهُ} [الأنبياء: 71] يعني: كان هناك شرٌّ يصيبه، وأذىً يلحق به، فنجّاه الله منه، وهذه النجاة مستمرة، فبعد أنْ أنجاه الله من النار أنجاه أيضًا مِمَا تعرَّض له من أَذَاهم.{وَلُوطًا} [الأنبياء: 71] وكان لوط عليه السلام ابنَ أخ إبراهيم {إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 71] أي: قلنا لإبراهيم: اترك هذه الأرض- وهي أرض بابل من العراق- واذهب إلى الأرض المقدسة بالشام، وخُذْ معك ابن أخيك، فبعد أنْ نجاهما الله لم يتركهما في هذا المكان، بل اختار لهما هذا المكان المقدس.والأرض حينما تُوصَف يُراد بها أيضًا مُحدَّدة مخصوصة، فإذا لم تُوصَف فتطلق على الأرض عامة إلا أن يعينها سياق الحال، فمثلًا لما قال أخو يوسف: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض حتى يَأْذَنَ لي أبي} [يوسف: 80] فالسياق يُوضِّح لنا أنها أرض مصر.لَكِن قوله: {وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض} [الإسراء: 104] فلم تُعيَّن، فدلَّ ذلك على أنها الأرض عامة، اسكنوا كُلَّ الأرض، يعني: تبعثروا فيها، ليس لكم فيها وطن مستقل، كما قال في آية أخرى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَمًا} [الأعراف: 168].فإذا أراد الله تجمعوا من الشتات {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخرة} [الإسراء: 104] أي: المرة التي سينتصرون فيها {جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء: 104] وهكذا يتجمَّعون في مكان واحد، فيسْهُلُ القضاء عليهم.ومعنى {بَارَكْنَا فِيهَا} [الأنبياء: 71] البركة قد تكون مادية أو معنوية، وهي الزروع والثمار والأنهار والخيرات، أو بركة معنوية، وهي بركة القِيَم في الأرض المقدسة، وهي أرض الأنبياء، ومعالم النبوة والرسالات.ثم يقول الحق سبحانه: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ}.يعطينا الحق سبحانه هنا لقطةً من قصة إبراهيم لَكِن بعيدة عَمّا نحن بصدده من الحديث عنه، فقد وهب الله لإبراهيم إسحق لما دعا الله قال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصالحين} [الصافات: 100] مع أنه كان عنده إسماعيل، لَكِن إسماعيل من هاجر، وقد تحركت مشاعر الغَيْرة لدى سارة، ووجدت في نفسها ما تجده النساء في مسألة الولد، وكيف يكون لإبراهيم ولد من هاجر التي زوَّجتها له دون أن يكون لها مِثْله.لذلك ألحَّتْ سارة على إبراهيم أن يدعو الله أنْ يرزقها الولد، فدعا إبراهيم ربه، وأراد الحق سبحانه أن يجيب إبراهيم، وأن يُحقِّق له له ما ترجوه زوجته، لَكِن أراد أن يعطيه هذا الولد في ملحظ عقدي يُسجَّل ولا يزول عن الأذهان أبدًا، ويظلُّ الولد مقترنًا بالحادثة.فبداية قصة إسحق لما أمر الله نبيه إبراهيم في الرؤيا أن يذبح ولده إسماعيل، فأخبره برؤياه: {يابني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ فانظر مَاذَا ترى} [الصافات: 102].أراد إبراهيم أنْ يُشرك ولده معه في هذا الاختبار، وألاَّ يأخذه على غِرَّة حتى لا تتغير نفسه نحو أبيه فيكرهه وهو لا يعلم ما حدث، وأراد أيضًا ألاَّ يحرم ولده من الثواب والأجر على هذه الطاعة وهذا الصبر على البلاء.أما إسماعيل فمن ناحيته لم يعارض، ولم يقُلْ مثلًا: يا أبت هذه مجرد رؤيا وليست وحيًا، وكيف نبني عليها، بل نراه يقول: {ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ} [الصافات: 102] ولم يقُلْ: أفعل ما تقول، فما دام الأمر من الله فافعل ما أمرتَ به {ستجدني إِن شَاءَ الله مِنَ الصابرين} [الصافات: 102].{فَلَمَا أَسْلَمَا} [الصافات: 103] أي: هما معًا إبراهيم وإسماعيل {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103] يقال: تله يعني جعل رأسه على التل، وهو المكان المرتفع من الأرض، و{لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103] يعني: جعل جبهته مباشرة للأرض، بحيث يذبحه من قفاهـ. وهذا هو الذَّبْح العاجل المثمر.{وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ} [الصافات: 104- 105] وما دُمْتَ صدّقْتَ الرؤيا، فلكَ جزاء الإحسان؛ لأنك أسرعتَ بالتنفيذ مع أنها رؤيا، كان يمكنه أن يتراخى في تنفيذها، لَكِنه بمجرد أن جاء الأمر قام وولده بتنفيذه.إذن: الحق سبحانه لا يريد من عبده إلا أنْ يُسلِّم بقضائه، وصدق القائل: لذلك لا يرفع الله قضاءٌ يقضيه على خلقه إلا إذا رُضيَ به، فلا أحدَ يجبر الله على شيء، وضربنا لذلك مثلًا- ولله المثَل الأعلى- بالأب حين يدخل، فيجد ولده على أمر يكرهه، فيزجره أو يضربه ضربة خفيفة، تُعبِّر عن غضبه، فإنْ خضع الولد لأبيه واستكان عاد الوالد عطوفًا حانيًا عليه وربما احتضنه وصالحه، أمّا لو عارض الولد وتبجَّح في وجه والده فإنه يشتد عليه ويُضاعِف له العقوبة، وتزداد قسوته عليه.وهكذا الحال مع إبراهيم {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] ففدينا له إسماعيل، ليس هذا وفقط بل {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ} [الصافات: 112] ثم زاده بأنْ جعل إسحق أيضًا نبيًّا مثل إسماعيل، هذه هي مناسبة الكلام عن إسحق ويعقوب.هنا يقول تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء: 72] والنافلة: الزيادة، وقط طلب من ربه ولدًا من الصالحين، فبشَّره الله بإسحق ومن بعده يعقوب وجميعهم أنبياء؛ لذلك قال: {نَافِلَةً} [الأنبياء: 72] يعني: أمر زائد عما طلبتَ؛ فإجابة الدعاء بإسحق، والزيادة بيعقوب، وسرور الإنسان بولده كبير، وبولد ولده أكبر، كما يقولون: أعز من الوِلْد وِلْد الولد والإنسان يضمن بقاء ذِكْره في ولده، فإن جاء ولد الولد ضَمِن ذِكْره لجيل آخر.والهبة جاءت من الله؛ لأن المرأة لم تكُنْ صالحة للإنجاب، بدليل قوله تعالى: {فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} [الذاريات: 29] فردَّ عليها: {قالوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله} [هود: 73] أي: أنه سبحانه قادر على كل شيء.ويقولالحق سبحانه: {وَكُلًا جَعَلْنَا صَالِحِينَ} [الأنبياء: 72] فالحفيد نافلة وزيادة في عطاء الذرية، ومبالغة في الإكرام، ثم يمتن الله على الجميع بأن يجعلهم صالحين، ويجعلهم أنبياء، كما قال في آية أخرى: {وَكُلًا جَعَلْنَا نبيًّا} [مريم: 49]. {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}.أئمة: ليس المقصود بالإمامة هنا السُّلْطة الزمنية من باطنهم، إنما إمامة القدوة بأمر الله {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء: 73] فهم لا يصدرون في شيء إلا على هُدًى من الله.وقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخيرات} [الأنبياء: 73] أي: يفتح لهم أبواب الخير ويُيسِّر لهم ظروفه؛ لأن الموفّق الذي يتوفر لديه الاستعداد للخير يفتح الله له مصارف الخير ويُعينه عليه.{وَإِقَامَ الصلاة وَإِيتَاءَ الزكاة} [الأنبياء: 73] وإقامة الصلاة هي: عَيْن الخيرات كلها؛ لأن الخيرات نعمة، لَكِن إقامة الصلاة حضرة في جانب المنعم سبحانه، فالصلاة هي خَيْر الخَيْر.ومع ذلك نجد مَنْ يتشاغل عن الصلاة، ويعتذر بالعمل وعدم الوقت.. إلخ. وكلها أعذار واهية، فكنتُ أقول لبعض هؤلاء: بالله عليك لو احتجتَ دورة المياه أتجد وقتًا أم لا؟ يقول: أجد الوقت، فلماذا- إذن- تحتال في هذه المسألة وتدبر الوقت اللازم، ولا تحتال في وقت الصلاة؟وربك عز وجل لو علم منك أنك تُجيب نداءه لَسهَّل لك الإجابة وقد رأينا الحق سبحانه يُسخِّر لك حتى الكافر ليعينك على أمر الصلاة.ففي إحدى سفرياتنا إلى بلجيكا رأينا أن أولاد المسلمين هناك لا يدرسون شيئًا من الدين الإسلامي في المدارس، بل يُدرِّسون لهم الدين المسيحي، فطلبنا مقابلة وزير المعارف عندهم، وتكلمنا معه في هذا الأمر، وكانت حُجَّتنا أنكم قبلتُم وجود هؤلاء المسلمين في بلادكم لحاجتكم إليهم، وإسهامهم في حركة حياتكم، ومن مصلحتكم أن يكون عند هؤلاء المسلمين دين يراقبهم قبل مراقبتكم أنتم، وأنتم أوّلُ المستفيدين من تدريس الدين الإسلامي لأولاد المسلمين.وفعلًا في اليوم التالي أصدروا قرارًا بتدريس الدين الإسلامي في مدارسهم لأولاد المسلمين؛ ذلك لأن الإسلام دين مثمر، ودين إيجابي تضمنه وتأمنه.فلأهمية الصلاة ذكرها الحق سبحانه في أول أفعال الخيرات، وفي مقدمتها، فقمّة الخيرات أنْ تتواجد مع الإله الذي يهبُكَ هذه الخيرات.{وَإِيتَاءَ الزكاة} [الأنبياء: 73] والزكاة تطبيق عمليٌّ للاستجابة لله حين تُخرج جزءًا من مالك لله، والصلاة دائمًا ما تُقرَن بالزكاة، فالعلاقة بينهما قوية، فالزكاة تضحية بجزء من المال، والمال في الحقيقة نتيجة العمل، والعمل فرع الوقت، أما الصلاة فهي تضحية بالوقت ذاته.وقوله تعالى: {وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 73] أي: مطيعين لأوامرنا، مجتنبين لنواهينا، فالعبادة طاعة عباد لمعبوده. اهـ.
وقرأ الباقون بالضم، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم، أي الحطام والرفات، فعال بمعنى مفعول، وهذا هو الكيد الذي وعدهم به.وقرأ ابن عباس وأبو السماك {جذاذًا} بفتح الجيم {إِلاَّ كَبِيرًا لَّهُمْ} أي للأصنام {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ} أي إلى إبراهيم {يَرْجِعُونَ} فيحاجهم بما سيأتي فيحجهم؛ وقيل: لعلهم إلى الصنم الكبير يرجعون فيسألونه عن الكاسر، لأن من شأن المعبود أن يرجع إليه في المهمات، فإذا رجعوا إليه لم يجدوا عنده خبرًا، فيعلمون حينئذٍ أنها لا تجلب نفعًا ولا تدفع ضررًا، ولا تعلم بخير ولا شرّ، ولا تخبر عن الذي ينوبها؛ من الأمر، وقيل: لعلهم إلى الله يرجعون، وهو بعيد جدًّا.
|