الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الشنقيطي: قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً}يوهم أنه ملك واحد وقوله: {صَفّاً صَفّاً} يقتضي أنه غير ملك واحد بل صفوف من جماعات الملائكة.والجواب: أن قوله تعالى: {والملك} معناه والملائكة ونظيره قوله تعالى: {وَالْمَلَكُ على أَرْجَائِهَا}.وتقدم بيانه بشواهده العربية في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السماء فَسَوَّاهُنّ} الآية. اهـ..فوائد لغوية وإعرابية: .قال السمين: سورة الفجر:{والفجر (1)}:قوله: {والفجر}: جوابُ هذا القَسَم قيل: مذكورٌ وهو قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} [الفجر: 14] قاله ابن الأنباري.وقيل: محذوفٌ لدلالةِ المعنى عليه، أي: لَنُجازِيَنَّ أحد بما عَمل بدليلِ تعديدِه ما فعلَ بالقرونِ الخاليةِ. وقدر الزمخشري: (ليُعَذِّبَنَّ) قال: يَدُلُّ عليه {أَلَمْ تَرَ} [الآية: 6] إلى قوله: {فَصَبَّ} [الفجر: 13]. وقدره الشيخ بما دَلَّتْ عليه خاتمةُ السورةِ قبلَه، لإيابهم إلينا وحسابهم علينا.{وَلَيَالٍ عشر (2)}:والعامَّةُ على {ليالٍ} بالتنوين، {عشر} صفةٍ لها.وقرأ ابنُ عباس {وليالِ عشر} بالإِضافةِ. فبعضهم يكتبُ {ليالِ} في هذه القراءة دونَ ياءٍ، وبعضُهم قال: {وليالي} بالياء، وهو القياسُ. قيل: والمرادُ: وليالي أيام عشر، وكان مِنْ حَقِّه على هذا أن يُقال: عشرةٍ؛ لأنَّ المعدودَ مذكر. ويُجاب عنه: بأنَّه إذا حُذِف المعدودُ جاز الوجهان.ومنه «وأتبعه بسِتٍّ من شوال»وسَمَعَ الكسائي: (صُمْنا من الشهر خمساً).{وَالشَّفْعِ والوتر (3)}قوله: {والوتر}: قرأ الأخَوان بكسرِ الواو، والباقون بفتحها وهما لغتان كالحِبْر والحَبْر، والفتحُ لغةُ قريشٍ ومَنْ والاها، والكسرُ لغةُ تميم. وهاتان اللغتان في {الوتر} مقابلَ الشَّفْع. فأمَّا في الوِتْر بمعنى التِّرَة، أي: الذَّحْلُ فبالكسرِ وحدَه، قاله الزمخشري. ونقل الأصمعيُّ فيه اللغتين أيضًا.وقرأ أبو عمروٍ في روايةِ يونسَ عنه بفتح الواو وكسر التاء، فيحتمل أَنْ يكونَ لغةً ثالثة، وأن يكونَ نَقَل كسرةَ الراءِ إلى التاء إجراءً للوصل مُجْرى الوقفِ.{وَاللَّيْلِ إِذَا يسر (4)}:وقال مقاتل: {هل} هنا في موضع {إن} تقديرُه: إنَّ في ذلك قَسَماً لذي حجر، ف {هل} على هذا في موضع جواب القسم. انتهى.وهذا قول باطلٌ؛ لأنه لا يَصْلُح أَنْ يكونَ مُقْسَماً عليه، على تقديرِ تسليمِ أنَّ التركيبَ هكذا، وإنما ذكَرْتُه للتنبيهِ على سقوطِه.وقيل: ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ، أي: وصلاةِ الفجر أو وربِّ الفجر.والعامَّةُ على عَدَمِ التنوينِ في {الفجر} و{الوَتْر} و{يسر}. وأبو الدينار الأعرابي بتنوين الثلاثةِ.قال ابن خالَوَيْه: هذا ما رُوي عن بعضِ العرب أنه يقفُ على أواخرِ القوافي بالتنوينِ، وإنْ كان فِعلاً، وإنْ كان فيه الألفُ واللامُ.قال الشاعر:يعني بهذا تنوينَ الترنُّم، وهو أنَّ العربيَّ إذا أراد تَرْكَ الترنمِ وهو مَدُّ الصوتِ نَوَّن الكلمةَ، وإنما يكونُ في الرويِّ المطلقِ. وقد عاب بعضُهم قول النَّحْويين (تنوين الترنم) وقال: بل ينبغي أَنْ يُسَمُّوه بتنوين تَرْكِ الترنُّم، ولهذا التنوينِ قسيمٌ آخرُ يُسَمَّى (التنوينَ الغالي)، وهو ما يَلْحَقُ الرويَّ المقيَّدَ كقوله: على أن بعض العروضيين أنكر وجودَه. ولهذين التنوينَيْن أحكامٌ مخالفةٌ لحكمِ التنوينِ حَقَّقْتُها في (شرح التسهيل) ولله الحمد.والحاصلُ أنَّ هذا القارئَ أجْرى الفواصلَ مُجْرى القوافي فَفَعَلَ فيها ما يَفْعل فيها. وله نظائرُ مَرَّ منها: {الرسولا} [الأحزاب: 66] {السبيلا} [الأحزاب: 67] {الظنونا} [الأحزاب: 10] في الأحزاب. و{المتعال} في الرعد [الآية: 9] و{يسر} هنا، كما سأبيِّنُه إن شاء الله تعالى.قال الزمخشري: فإن قلتَ: فما بالُها مُنَكَّرَة مِنْ بين ما أَقْسَمَ به؟قلت: لأنها ليالٍ مخصوصةٌ مِنْ بينِ جنس الليالي العشر بعضٌ منها، أو مخصوصةٌ بفضيلةٍ ليسَتْ في غيرها.فإن قلت: هلاَّ عُرِّفَتْ بلامِ العهدِ لأنها ليالٍ معلومةٌ.قلت: لو قيل ذلك لم تستقلَّ بمعنى الفضيلةِ التي في التنكير، ولأنَّ الأحسنَ أَنْ تكون اللاماتُ متجانِسَةً ليكون الكلامُ أبعدَ من الإِلغازِ والتَّعْمِية.قلت: يعني بتجانسِ اللاماتِ أن تكون كلُّها إمَّا للجنسِ، وإمَّا للعهدِ، والفَرَضُ أنَّ الظاهرَ أن اللاماتِ في الفجر وما معه للجنسِ، فلو جيءَ بالليالي معرفةً بلامِ العهدِ لَفاتَ التجانسُ.قوله: {إِذَا يسر}: منصوبٌ بمحذوفٍ هو فعلُ القسم، أي: أُقْسِم به وقتَ سُراهـ. وحَذَفَ ياءَ {يسري} وَقْفاً، وأثبتها وصلاً، نافعٌ وأبو عمروٍ، وأثبتها في الحالَيْنِ ابنُ كثير، وحَذَفَها في الحالين الباقون لسقوطِها في خَطِّ المصحفِ الكريم، وإثباتُها هو الأصلُ لأنها لامُ فعلٍ مضارعٍ مرفوعٍ، وحَذْفُها لموافقةِ المصحفِ وموافقةِ رؤوسِ الآي، وجَرْياً بالفواصلِ مَجْرى القوافي. ومَنْ فَرَّقَ بين حالَتَيْ الوقفِ والوصلِ فلأنَّ الوقفَ محلُّ استراحةٍ. ونَسَبُ السُّرى إلى الليل مجازٌ؛ إذ المرادُ: يسرى فيه، قاله الأخفش.وقال غيره: المرادُ يَنْقُصُ كقوله: {إِذْ أَدْبَرَ} [المدثر: 33]، {إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17].{هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذي حجر (5)}:قوله: {لِّذِى حجر}: الحجر: العقل. وتقدَّم الكلامُ عليه.{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بعاد (6) إِرَمَ ذَاتِ العماد (7)}:قوله: {بعاد إِرَمَ}: قرأ العامَّةُ {بعاد} مصروفاً {إرَمَ} بكسرِ الهمزة وفتح الراءِ والميم، ف (عاد) اسمٌ لرجلٍ في الأصل، ثم أُطْلِقَ على القبيلة أو الحيِّ، وقد تقدَّم الكلامُ عليه. وأمَّا {إرَمُ} فقيل: هو اسمُ قبيلةٍ.وقيل: اسمُ مدينةٍ: واخْتُلف في التفسير في تعيينِها. فإن كانَتْ اسمَ قبيلةٍ كانت بدلاً أو عطف بيانٍ، أو منصوبةً بإضمارِ (أعني)، وإن كانَتْ اسمَ مدينةٍ فيقلَقُ الإِعراب من عاد، وتخريجُه على حَذْفِ مضافٍ، كأنه قيل: بعاد أهلِ إرمَ، قاله الزمخشري، وهو حَسَنٌ ويَبْعُدُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ (عاد) بدلَ اشتمال إذا لا ضمير، وتقديرُه قَلِقٌ. وقد يقال: إنه لما كان المعنى بعاد مدينتَهم؛ لأنَّ إرمَ قائمةٌ مَقامَ ذلك صَحَّ البدلُ. وإرمُ اسمُ جَدِّ عادٍ، وهو عادُ بنُ عَوَضِ بنِ إرمَ بنِ سامِ بنِ نوحٍ.قال زهير: وقال قيس الرقيات: وقرأ الحسن {بعاد} غيرَ مصروفٍ.قال الشيخ: مُضافاً إلى إرم. فجاز أَنْ يكون {إرَمُ} أباً أو جدًّا أو مدينةً.قلت: يتعين أَنْ يكونَ في قراءة الحسن غيرَ مضافٍ، بل يكون كما كان منوناً، ويكونُ {إرمَ} بدلاً أو بياناً أو منصوباً بإضمارِ أَعْني ولو كان مضافاً لوجَبَ صَرْفُه. وإنَّما مُنع (عاد) اعتباراً بمعنى القبيلة أو جاء على أحد الجائزَيْنِ في (هند) وبابِه.وقرأ الضحاك في روايةٍ {بعاد إرم} ممنوعَ الصرفِ وفَتْحِ الهمزةِ مِنْ {أرَمَ}.وعنه أيضًا {أرْمَ} بفتحِ الهمزةِ وسكونِ الراءِ، وهو تخفيفُ {أَرِمَ} بكسرِ الراء، وهي لغةٌ في اسمَ المدينة، وهي قراءة ابنِ الزُّبَيْرِ.وعنه في (عاد) مع هذه القراءة الصَّرْفُ وتَرْكُه.وعنه أيضًا وعن ابن عباس {أَرَمَّ} بفتح الهمزةِ والراءِ، والميمُ مشددةٌ جعلاه فعلاً ماضياً. يقال: (أَرَمَّ العَظْمُ)، أي: بَلِيَ. ورَمَّ أيضًا وأرَمَّه غيرُه، فأَفْعَلَ يكون لازماً ومتعدياً في هذا. و{ذات} على هذه القراءة مجرورةٌ صفةً لـ: (عاد)، ويكونُ قد راعى لفظَها تارةً في قوله: {أرَمَّ}، فلم يُلْحِقْ علامةَ تأنيثٍ، ويكونُ {أرَمَّ} معترضاً بين الصفةِ والموصوفِ، أي: أَرَمَّتْ هي بمعنى: رَمَّتْ وَبِلِيَتْ، وهو داءٌ عليهم. ويجوزُ أَنْ يكونَ فاعلُ {أرَمَّ} ضمير الباري تعالى، والمفعولُ محذوفٌ، أي: أرَمَّها اللَّهُ. والجملة الدعائيةُ معترضةٌ أيضًا.ومعناها أخرى في {ذات} فأنَّثَ. ورُوي عن ابن عباس {ذاتَ} بالنصب على أنها مفعولٌ بـ: {أرَمَّ}. وفاعلُ {أرَمَّ} ضمير يعودُ على الله تعالى، أي: أرَمَّها اللَّهُ تعالى ويكون {أرمَّ} بدلاً مِنْ {فَعَلَ ربُّكَ} أو تبييناً له.وقرأ ابن الزبير {بعاد أَرِمَ} بإضافةِ (عاد) إلى {أرِم} مفتوحَ الهمزةِ مكسورَ الراء، وقد تقدَّم أنه اسمُ المدينة. وقرئ: {أرِمِ ذاتِ} بإضافة {أرم} إلى {ذات}. ورُوي عن مجاهدٍ {أرَمَ} بفتحتين مصدرَ أَرِمَ يَأْرَمُ، أي: هَلَكَ، فعلى هذا يكونُ منصوباً بـ: {فعَلَ ربُّك} نصب المصدرِ التشبيهيِّ، والتقدير: كيف أهلك ربُّك إهلاكَ ذاتِ العماد؟ وهذا أغربُ الأقوالِ.و{ذاتِ العماد} إنْ كان صفةً لقبيلةٍ فمعناه: أنهم أصحابُ خيامٍ لها أَعْمِدةٌ يَظْعَنون بها، أو هو كنايةٌ عن طولِ أبدانهم كقوله: قاله ابن عباس، وإنْ كان صفةً للمدينة فمعناه: أنها ذاتُ عُمُدٍ من الحجارة.{الَّتِي لَمْ يُخلق مِثْلُهَا فِي البلاد (8)}قوله: {التي لَمْ يُخْلَقْ}: يجوز أَنْ يكونَ تابعاً، وأَنْ يكونَ مَقْطوعاً رفعاً أو نصباً. والعامَّةُ على {يُخلق} مبنياً للمفعولِ، {مِثْلُها} مرفوعٌ على ما لم يُسَمَّ فاعلُه.وعن ابن الزبير {يَخلق} مبنياً للفاعل {مثلَها} منصوبٌ به.وعنه أيضًا {نَخلق} بنونِ العظمةِ.{وثمود الَّذينَ جَابُوا الصَّخْرَ بالواد (9)}:قوله: {وثمود}: قرأ العامَّةُ بمَنْع الصرف، وابنُ وثَّاب بصَرْفِه. وقد تقدَّم الكلامُ على ذلك مُشْبعاً. و{الذين} يجوز فيه ما تقدَّم في {التي لَمْ يُخْلَقْ}. وجابَ الشيءَ يجوبُه قَطَعَه وخَرَقه جَوْباً. وجُبْتُ البلاد: قطعتُها سَيْراً.قال الشاعر: قوله: {بالواد} متعلق: إمَّا بـ: {جابوا}، أي: فيه، وإمَّا بمحذوفٍ على أنه حالٌ من {الصخر}، أو من الفاعلين. وأثبت ياءَ {الوادي} في الحالَيْن ابنُ كثير وورشٌ، بخلافٍ عن قنبل فرُوي عنه إثباتُها في الحالَيْن، ورُوي عنه إثباتُها في الوصلِ خاصةً، وحذفها الباقون في الحالَيْن، موافقةً لخطِّ المصحفِ ومراعاةً للفواصل كما تقدَّم في {إِذَا يسر} [الفجر: 4].{الَّذينَ طَغَوْا فِي البلاد (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الفساد (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عذاب (13)}قوله: {الذين طَغَوْاْ}: يجوزُ فيه ما جاز في {الذين} قبله من الإِتباعِ والقطع على الذمِّ.قوله: {سَوْطَ} هو الآلةُ المعروفةُ. قيل: وسُمِّيَ سَوْطاً لأنه يُساط به اللحمُ عند الضَّرْبِ، أي: يَخْتلط.قال كعب بن زهير: وقال آخر: وقيل: هو في الأصلِ مصدرُ ساطه يَسُوْطه سَوْطاً، ثم سُمِّيَتْ به الآلةُ.وقال أبو زيد: (أموالُهم بينهم سَوِيطة)، أي: مختلطةٌ. واستعمالُ الصَّبِّ في السَّوْط استعارةٌ بليغة، وهي شائعةٌ في كلامِهم.{إِنَّ رَبَّكَ لَبِالمرصاد (14)}قوله: {لبالمرصاد}: المرصاد كالمَرْصَد، وهو المكانُ يترتَّبُ فيه الرَّصَدَ جمعَ راصِد كحَرَس، فالمرصاد مِفْعال مِنْ رَصَده كمِيْقات مِنْ وَقَتَه، قاله الزمخشري. وجَوَّزَ ابنُ عطية في (المرصاد) أَنْ يكونَ اسمَ فاعلٍ قال: كأنه قيل: لَبالراصد، فعبَّر ببناء المبالغة.ورَدَّ عليه الشيخ: بأنَّه لو كان كذلك لم تَدْخُلْ عليه الباءُ إذ ليس هو في موضعِ دخولِها لا زائدةً ولا غيرَ زائدةٍ.قلت: قد وَرَدَتْ زيادتُها في خبرِ {إن} كهذه الآيةِ، في قول امرئ القيس: إلاَّ أنَّ هذا ضرورةٌ لا يُقاسُ عليه الكلامُ فَضْلاً عن أفصحِه.{فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ ونعمه فَيَقول رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)}قوله: {فَأَمَّا الإنسان}: مبتدأٌ، وفي خبرِه وجهان:أحدهما: وهو الصحيحُ أنَّه الجملة مِنْ قوله: {فيقول} كقوله: {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ} [البقرة: 26] كما تقدَّم بيانُه، والظرفُ حينئذٍ منصوبٌ بالخبر؛ لأنه في نيةِ التأخيرِ، ولا تمنعُ الفاءُ من ذلك، قاله الزمخشريُّ وغيرُه.والثاني: أنَّ (إذا) شرطيةٌ وجوابُها {فيقول}، وقوله: {فأَكْرَمَه} معطوف على {ابتلاه}، والجملة الشرطيةُ خبرُ {الإِنسان}، قاله أبو البقاء. وفيه نظرٌ؛ لأنَّ (إمَّا) تَلْزَمُ الفاءَ في الجملة الواقعةِ خبراً عَمَّا بعدها، ولا تُحْذَفُ إلاَّ مع قول مضمر، كقوله تعالى: {فَأَمَّا الذين اسودت} [آل عمران: 106] كما تقدَّم بيانُه، إلاَّ في ضرورةٍ.قال الزمخشري: فإنْ قلتَ بمَ اتَّصَلَ قوله: {فأمَّا الإِنسانُ}؟قلت: بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} فكأنَّه قيل: إنَّ اللَّهَ لا يريدُ من الإِنسانِ إلاَّ الطاعةَ، فأمَّا الإِنسانُ فلا يريد ذلك ولا يَهُمُّه إلاَّ العاجلةَ. انتهى.يعني بالتعلُّقِ مِنْ حيثُ المعنى، وكيف عطفتْ هذه الجملة التفصيليةُ على ما قبلَها مترتبةً عليه؟ وقوله: (لا يريد إلاَّ الطاعةَ) على مذهبِه، ومذهبُنا أنَّ اللَّهَ يريد الطاعةَ وغيرَها، ولولا ذلك لم يقعْ. فسُبحان مَنْ لا يُدْخِلُ في مُلْكِه ما لا يُريد. وإصلاحُ العبارةِ أَنْ يقول: إنَّ اللَّهَ يريدُ من العبدِ أو الإِنسانِ من غيرِ حَصْرٍ. ثم قال: فإنْ قُلْتَ: فكيف توازَنَ قوله: {فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ} وقوله: {وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه}، وحقُّ التوازنِ أَنْ يتقابلَ الواقعان بعد (أمَّا) و(أمَّا). تقول: (أمَّا الإِنسانُ فكفورٌ، وأمَّا المَلَكٌ فشَكورٌ)، (أمَّأ إذا أَحْسَنْتَ إلى زيدٍ فهو مُحْسِنٌ إليك، وأمَّا إذا أَسَأْتَ إليه فهو مُسِيْءٌ إليك)؟قلت: هما متوازنان من حيث إنَّ التقديرَ: وأمَّا هو إذا ما ابتلاه ربُّه وذلك أنَّ قوله: {فَيَقول ربي أَكْرَمَنِ} خبرُ المبتدأ الذي هو الإِنسانُ. ودخولُ الفاءِ لما في (أمَّا) مِنْ معنى الشرطِ، والظرفُ المتوسِّطُ بين المبتدأ والخبرِ في نيةِ التأخيرِ، كأنه قال: فأمَّا الإِنسانُ فقائِلٌ ربي أكرمَنِ وقتَ الابتلاءِ فَوَجَبَ أَنْ يكونَ {فيقول} الثاني خبرَ المبتدأ واجبٌ تقديرُه.{وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقدر عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقول رَبِّي أَهَانن(16)}قوله: {فَقدر عَلَيْهِ}: قرأ ابنُ عامرٍ بتشديدِ الدال، والباقون بتخفيفِها، وهما لغتان بمعنىً واحد، ومعناهما التضييقُ. ومن التخفيفِ قوله: {الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقدر} [الرعد: 26] {وَمَن قدر عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7].قوله: {أَكْرَمَنِ} {أهانن} قرأ نافعٌ بإثباتِ ياءَيْهما وَصْلاً وحَذْفِهما وقفاً، مِنْ غيرِ خلافٍ عنه، والبزيُّ عن ابن كثير يُثْبِتُهما في الحالَيْن، وأبو عمرو اختُلِفَ عنه في الوصلِ فرُوي عنه الإِثباتُ والحَذْفُ، والباقون يَحذفونهما في الحالَيْن، وعلى الحَذْفِ قول الشاعر: يريد: أنكرني.وقال الزمخشري: فإنْ قلتَ: هَلاَّ قال: فأهانَه وقدر عليه رِزْقَه، كما قال: فأكرَمَه ونعمه.قلت: لأنَّ البَسْطَ إكرامٌ من الله تعالى لعبدِه بإنعامِه عليه مُتَفَضِّلاً مِن غيرِ سابقةٍ. وأمَّا التقديرُ فليس بإهانةٍ له؛ لأنَّ الإِخلالَ بالتفضُّل لا يكونُ إهانة، كما إذا أهدى لك زيدٌ هديةً تقول: أكرمني، فإذا لم يَهْدِ لك شيئاً لا يكو مُهيناً لك.{كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17)}قوله: {تُكْرِمُونَ}: قرأ أبو عمرو هذا والثلاثةَ بعدَه بياء الغيبة حَمْلاً على معنى الإِنسانِ المتقدِّمِ إذ المرادُ به الجنسُ، والجنسُ في معنى الجَمْعِ، والباقون بالتاء في الجميع خطاباً للإِنسانِ المرادِ به الجنسُ على طريقِ الالتفاتِ.وقرأ الكوفيون {تَحاضُّون} والأصلُ: تتحاضُّون، فحذف إحدى التاءَيْن، أي: لا يَحُضُّ بعضُكم بعضاً. ورُوي عن الكسائي {تُحاضُّون} بضم التاءِ، وهي قراءة زيدِ ابن علي وعلقمةَ، أي: تُحاضُّون أنفسَكم. والباقون {تَحُضُّون} مِنْ حَضَّه على كذا، أي: أغْرَاه به. ومفعولُه محذوفٌ، أي: لا تَحُضُّون أنفسَكم ولا غيرَها. ويجوز أَنْ لا يُقدر، أي: لا تُوْقِعون الحَضَّ.{وَلَا تَحَاضُّونَ على طَعَامِ الْمسكينِ (18)}قوله: {على طَعَامِ}: متعلق بتحاضُّون. و{طعام} يجوزُ أَنْ يكونَ على أصلِه مِنْ كونِه اسماً للمطعومِ. ويكون على حَذْفِ مضافٍ، أي: على بَذْلِ، أو على إعطاءِ طعامٍ، وأَنْ يكونَ اسمَ مصدرٍ بمعنى الإِطعام، كالعطاء بمعنى الإِعطاء، فلا حَذْفَ حينئذٍ. والتاءُ في {التراث} بدل من الواو، لأنه من الوِراثة. ومثلُه: تَوْلَج وتَوْراة وتُخَمَة، وقد تقدَّم ذلك. و{لما} بمعنى مجموع. يقال: لَممتُ الشيءَ لَمَّاً، أي: جَمَعْتُه جَمْعاً.قال الحطيئة: ولَممتُ شَعَثَه من ذلك.قال النابغة: والجَمُّ: الكثير. ومنه (جُمَّةُ الماء).قال زهير: ومنه: الجُمَّة للشَّعْر، وقولهم (جاؤوا الجَمَّاءَ الغَفير). من ذلك.{كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21)}قوله: {دَكّاً دَكّاً}: فيه وجهان:أحدهما: أنه مصدرٌ مؤكِّد، و{دكاً} الثاني تأكيدٌ للأول تأكيداً لفظياً، كذا قاله ابنُ عُصفور، وليس المعنى على ذلك.والثاني: أنه نصب على الحالِ والمعنى: مكرَّراً عليه الدَّكُّ ك عَلَّمْتُه الحِساب باباً باباً، وهذا ظاهرُ قول الزمخشريِّ، وكذلك {صَفَّاً صَفَّاً} حالٌ أيضًا، أي: مُصْطَفِّين أو ذوي صفوفٍ كثيرة.{وَجِيءَ يومئِذٍ بِجَهَنَّمَ يومئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذكرى (23)}قوله: {يومئِذٍ}: منصوبٌ بـ: {جيْء} والقائمُ مَقامَ الفاعلِ {بجهنَّمَ}. وجَوَّزَ مكي أَنْ يكونَ {يومئِذٍ} قائماً مَقامَ الفاعلِ. وإمَّا {يومئذ} الثاني فقيل: بدل من {إذا دُكَّت}، والعامل فيهما {يتذكَّر} قاله الزمخشري، وهذا هو مذهبُ سيبويهِ، وهو أنَّ العاملَ في المبدلِ منه عاملٌ في البدلِ، ومذهبُ غيرِه أنَّ البدلَ على نيةِ تَكْرارِ العاملِ.وقيل: إنَّ العاملَ في {إذا دُكَّتْ} {يقول}، والعاملُ في {يومئذ} {يتذكَّر} قاله أبو البقاء.قوله: {وأنى لَهُ الذكرى} {أنَّى} خبرٌ مقدمٌ، و{الذكرى} مبتدأٌ مؤخرٌ، و{له} متعلق بما تَعَلَّق به الظرفُ.{فَيومئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عذابهُ أحد (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أحد (26)}قوله: {لاَّ يُعَذِّبُ}: قرأ الكسائي {لا يُعَذَّبُ} و{لا يُوْثَقُ} مبنيين للمفعولِ. والباقون قرؤُوهما مبنيَّيْن للفاعل. فأمَّا قراءة الكسائي فأُسْنِد الفعلُ فيها إلى {أحد} وحُذِفَ الفاعلُ للعِلْم به وهو اللَّهُ تعالى أو الزبانية المُتَوَلُّون العذاب بأمرِ اللَّهِ تعالى. وأمَّا {عذابه} و{وَثاقه} فيجوزُ أَنْ يكونَ المصدران مضافَيْن للفاعلِ والضمير للَّهِ تعالى، ومضافَيْنِ للمفعول، والضمير للإِنسانِ، ويكون (عذاب) واقعاً موقع تَعْذيب. والمعنى: لا يُعَذَّبُ أحد تعذيباً مثلَ تعذيبِ اللَّهِ تعالى هذا الكافرَ، ولا يُوْثَقُ أحد توثيقاً مثلَ إيثاقِ اللَّهِ إياه بالسَّلاسِلِ والأغلالِ، أو لا يُعَذَّبُ أحد مثلَ تعذيبِ الكافرِ، ولا يُوْثَقُ مثلَ إيثاقِه، لكفرِه وعنادِه، فالوَثاق بمعنى الإيثاق كالعَطاء بمعنى الإِعطاء. إلاَّ أنَّ في إعمالِ اسمِ المصدرِ عملَ مُسَمَّاه خلافاً مضطرباً فنُقل عن البصريين المنعُ، وعن الكوفيين الجوازُ، ونُقل العكسُ عن الفريقَيْن. ومن الإِعمال قوله: ومَنْ مَنَعَ نصب (المِئَة) بفعلٍ مضمر. وأَصْرَحُ من هذا قول الآخر: وقيل: المعنى ولا يَحْمِلُ عذاب الإِنسانِ أحد كقوله: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الأنعام: 164] قاله الزمخشري. وأمَّا قراءة الباقين فإنه أَسْنَدَ الفعلَ لفاعلِه.والضمير في {عذابه} و{وَثاقَه} يُحتمل عَوْدُه على الباري تعالى، بمعنى: أنَّه لا يُعَذِّبُ في الدنيا مثلَ عذاب اللَّهِ تعالى يومئذٍ أحد، أي: إنَّ عذاب مَنْ يُعَذِّبُ في الدنيا ليس كعذاب الله تعالى يوم القيامةِ، كذا قاله أبو عبد الله، وفيه نظرٌ: من حيث إنه يَلْزَمُ أَنْ يكونَ {يومئذٍ} معمولاً للمصدرِ التشبيهيِّ، وهو ممتنعٌ لتقدُّمِه عليه، إلاَّ أن يُقال: يُتَوَسَّعُ فيه.وقيل: المعنى لا يَكِلُ عذابه ولا وَثاقَه لأحد؛ لأنَّ الأمرَ لله وحدَه في ذلك.وقيل: المعنى أنَّه في الشدة والفظاعةِ في حَيِّزٍ لم يُعَذِّبْ أحد قط في الدنيا مثلَه. ورُدَّ هذا: بأنَّ (لا) إذا دَخَلَتْ على المضارعِ صَيَّرَتْه مستقبلاً، وإذا كان مستقبلاً لم يطابقْ هذا المعنى، ولا يُطْلَقُ على الماضي إلاَّ بمجازٍ بعيدٍ، وبأنَّ {يومئذٍ} المرادُ به يوم القيامة لا دارُ الدنيا.وقيل: المعنى أنَّه لا يُعَذِّبُ أحد في الدنيا مثلَ عذاب اللهِ الكافرَ فيها، إلاَّ أن هذا مردودٌ بما رُدَّ به ما قَبلَه. ويُحتمل عَوْدُه على الإِنسان بمعنى: لا يُعَذِّبُ أحد من زبآنية العذاب مثلَ ما يُعَذِّبون هذا الكافرَ، أو يكونُ المعنى: لا يَحْمِلُ أحد عذاب الإِنسانِ كقوله: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [فاطر: 18]. وهذه الأوجهُ صَعْبَةُ المَرامِ على طالِبها من غيرِ هذا الموضوعِ لتفرُّقها في غيرِه وعُسْرِ استخراجِها منه.وقرأ نافعٌ في روايةٍ وأبو جعفر وشَيْبة بخلافٍ عنهما {وِثاقَه} بكسر الواو.{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المطمئنة (27)}قوله: {يا أيتها}: هذه قراءة العامَّةِ {يا أيتُها} بتاءِ التأنيث.وقرأ زيدُ بن علي {يا أيُّها} كنداءِ المذكر، ولم يُجَوِّز ذلك أحد، إلاَّ صاحبَ (البديع)، وهذه شاهدةٌ له. وله وجه: وهو أنها كما لم تطابِقْ صفتَها تثنيةً وجَمْعاً جاز أن لا تطابِقَها تأنيثاً. تقول: يا أيُّها الرجلان يا أيُّها الرجال. و{راضية} و{مرضية} حالان، أي جامعةً بين الوصفَيْن؛ لأنَّه لا يَلْزَمُ مِنْ أحدهما الآخرُ.{فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29)}قوله: {فِي عِبَادِي} يجوزُ أَنْ يكونَ: في جسد عبادي ويجوزُ أَنْ يكونَ المعنى: في زُمْرة عبادي.وقرأ ابن عباس وعكرمة وجماعةٌ {في عبدي} والمرادُ الجنسُ، وتَعَدَّى الفعلُ الأولُ بـ: (في) لأنَّ الظرفَ ليس بحقيقي نحو: (دخلت في غِمار الناس)، وتعدَّى الثاني بنفسِه لأنَّ الظرفيةَ متحققةٌ، كذا قيل، وهذا إنما يتأتَّى على أحد الوجهَيْنِ، وهو أنَّ المرادَ بالنفس بعضُ المؤمنين، وأنه أَمْرٌ بالدخولِ في زُمْرة عبادِه، وأمَّا إذا كان المرادُ بالنفسِ الروحَ، وأنها مأمورةٌ بدخولِها في الأجساد فالظرفيةُ فيه متحقِّقةٌ أيضًا. اهـ.
|