الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قوله: {فقد كذبوكم} التفات لأجل الإلزام والفاء فيه تدل على شرط مقدر كأنه قال: إن زعمتم أنهم آلهتكم فقد كذبوكم بقولكم إنهم آلهة. أو بقولهم سبحانك ما كان ينبغي لنا على اختلاف قراءتي الخطاب واليغبة. قال جار الله: الباء في الأول كقوله: {بل كذبوا بالحق} والجار والمجرور بدل من كاف الخطاب كأنه قيل: فقد كذبوا بما تقولون. وفي الثاني كقولك كتبت بالقلم. {فما تستطيعون} أنتم يا كفار أو فما يستطيع آلهتكم على القراءتين صرف العذاب عنكم. وقيل: الصرف التوبة لأنها تصرف العاصي عن فعله. وقيل: الحيلة من قولهم إنه ليتصرف أي يحتال. ثم ذكر وعيد كل ظالم بقوله: {ومن يظلم} الآية. فاستدلت المعتزلة به على وعيد الفاسق وخلوده وذلك أن الفسق ظلم لقوله: {ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون} [الحجرات: 11] والإنصاف أنه لا دلالة في الاية على مطلوبهم لأن من ليست من صيغ العموم عند بعضهم، ولئن سلم فلعل المراد الأكثر أو أقوام بأعيانهم لقوله: {منكم} ولئن سلم فلعله مشروط بعدم العفو كما أنه مشروط عند المعتزلة بعدم التوبة، ولو سلم الجميع فإذاقة العذاب لا تدل على الخلود. ثم بين بقوله: {وما أرسلنا} الآية. أنه لا وجه لقولهم ما لهذا الرسول يأكل الطعام لأن هذه عادة مستمرة من الله في كل رسله. قال الزجاج: الجملة بعد {إلا} صفة لموصوف محذوف والمعنى: وما أرسلنا قبلك أحدًا من المرسلين: إلا آكلين وماشين. وإنما حذف لأن في قوله: {من المرسلين} دليلًا عليه نظيره {وما منا إلا له مقام معلوم} [الصافات: 164] أي وما منا أحد. وقال الفراء: المحذوف هو الموصول والتقدير: إلا من انهم. وقال ابن الأنباري: المحذوف هو الواو بعد إلا فتكون الجملة حالًا كقوله: {وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم} [الحجر: 4] قوله: {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة} قال الكلبي والفراء والزجاج: إن هذا في رؤساء المشركين كأبي جهل وغيره وفي فقراء الصحابة كأنه إذا رأى الشريف الوضيع وقد اسلم قبله أنف أن يسلم فأقام على كفره لئلا يكون للوضيع السابقة والفضل عليه دليله قوله تعالى: {لو كان خيرًا ما سبقونا إليه} [الأحقاف: 11] وعن ابن عباس والحسن أنه في أصحاب البلاء والعافية يقول أحدهم: لم لم أجعل مثله في الخلق والخلق والعلم والعقل والرزق والأجل وغير ذلك يؤيده ما روي عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم «ويل للعالم من الجاهل وويل للجاهل من العالم وويل للسلطان من الرعية وويل للرعية من السلطان وويل للشديد من الضعيف وللضعيف من الشديد بعضهم لبعض فتنة وقرأ هذا الآية».وقال آخرون: إنه احتجاج عليهم في اختصاص محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة مع مساواته إياهم في البشرية وصفاتها فابتلى المرسلين بالمرسل إليهم وبمناصبتهم لهم العداوة وأنواع الأذى، وابتلى المرسل إليهم بالتكليف وبذل النفس والمال وصيرورتهم تابعين خادمين بعد أن كانوا متبوعين مخدومين. قالت الأشاعرة: في هذا الجعل إشارة إلى مذهبنا في القدر.وقال الجبائي: هذا الجعل بمعنى التعريف كما يقال فيمن بين أن فلانًا لص إنه جعله لص. قال في الكشاف: موقع {أتصبرون} بعد ذكر الفتنة موقع أيكم بعد الابتلاء في قوله: {ليبلوكم أيكم أحسن عملًا} [الملك: 2] قلت: أراد أن كلًا من الابتلاء والفتنة يستدعي التمييز فيحسن الاستفهام بعده أي بفتنكم ليظهر أنكم تصبرون على البلاء أم لا، ولعل الأظهر أن الاستفهام غير متعلق بالفتنة وإنما هو مستأنف للوعيد كقوله: {فهل أنتم منتهون} [المائدة: 91] ويؤيده قوله: {وكان ربك بصيرًا} عالمًا بمن صبر ومن لا يصبر فيجازي كلًا منهم بحسب ذلك. وقيل: في الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما عيروه به من الفقر فقد جعل الأغياء فتنة للفقراء. وقيل: جعلناك فتنة لهم حين بعثناك فقيرًا لتكون طاعة من يطيعك خالصة لوجه الله، ولو كنت غنيًا صاحب كنز كما اقترحوا لم يظهر الطائع من المخلص. وقالت الصوفية: أتصبرون يا معشر الأنبياء على ما يقولون ويا معشر الأمم عما يقولون والله أعلم. اهـ.
.قال الخطيب الشربيني: سورة الفرقان مكية إلا قوله تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر} إلى {رحيمًا} فمدني، وآياتها سبع وسبعون آية، وثمانمائة واثنان وسبعون كلمة، وعدد حروفها ثلاثة آلاف وسبعمائة وثمانون حرفًا.{بسم الله} الذي له الحجة البالغة {الرحمن} الذي عم الخلق بنعمه {الرحيم} الذي وسعت رحمته كل شيء.{تبارك} قال الزجاج: تفاعل من البركة وهي كثرة الخير وزيادته، ومنه تبارك الله، وفيه معنيان: تزايد خيره وتكاثر، أو تزايد عن كل شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله، وعن ابن عباس كأن معناه جاءنا بكل بركةوخير، وقال الضحاك: تبارك تعاظم، ولا يستعمل إلا لله تعالى ولا يتصرف فيه، ثم وصف ذاته الشريفة بما يدل على ذلك بقوله تعالى: {الذي نزل الفرقان} أي: القرآن، والفرقان مصدر فرق بين الشيئين إذا فصل بينهما، وسمي به القرآن لفصله بين الحق والباطل ولأنه لم ينزل جملة واحدة، ولكن مفروقًا مفصولًا بين بعضه وبعض في الإنزال؛ ألا ترى قوله تعالى: {وقرآنًا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث} [الإسراء: 106].{على عبده} أي: محمد صلى الله عليه وسلم وأضافه إلى نفسه إضافة تشريف، وفي عود ضمير {ليكون} ثلاثة أوجه:أحدها: أنه يعود على الذي نزل أي: ليكون الذي نزل الفرقان نذيرًا.الثاني: أنه يعود على الفرقان أي: ليكون الفرقان نذيرًا، وأضاف الإنذار إليه كما أضاف الهداية إليه في قوله تعالى: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} [الإسراء: 9] قال ابن عادل: وهو بعيد؛ لأن المنذر والنذير في صفات الفاعل المخوف ووصف القرآن به مجاز وحمل الكلام على الحقيقة أولى.الثالث: أنه يعود على عبده أي: ليكون عبده محمد صلى الله عليه وسلم {للعالمين نذيرًا} أي: وبشيرًا، وهذا أحسن الوجوه معنىً وصناعة لقربه مما يعود عليه والضمير يعود على أقرب مذكور، وللعالمين متعلق بنذيرًا، وإنما قدّم لأجل الفواصل، ونذيرًا بمعنى منذر أي: مخوف ويجوز أن يكون مصدرًا بمعى الإنذار كالنكير بمعنى الإنكار ومنه قوله تعالى: {فكيف كان عذابي ونذر} (القمر: 16).تنبيه: المراد بالعالمين:قال البقاعي: أي: المكلفين كلهم من الجن والإنس والملائكة اه. ولكن في إرساله للملائكة خلاف بين العلماء، فقد نقل الجلال المحلي في شرحه على جمع الجوامع الإجماع على أنه لم يرسل إليهم، وغيره صرح بأنه أرسل إليهم، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ.فإن قيل: قوله تعالى: {تبارك} يدل على كثرة الخير والبركة، فالمذكور عقبه لابد وأن يكون مبينًا لكثرة الخير والمنافع، والإنذار يوجب الغم والخوف فكيف يليق ذكره بهذا الموضع؟أجيب: بأن الإنذار يجري مجرى تأديب الوالد كما أنه كلما كانت المبالغة في تأديب الوالد أكثر كان رجوع الخلق إلى الله تعالى أكثر، وكانت السعادة الأخروية أتم وأكثر، وهذا كالتنبيه على أنه لا التفات إلى المنافع العاجلة؛ لأنه تعالى لما وصف نفسه يعطي الخيرات الكثيرة لم يذكر إلا منافع الدين، ولم يذكر منافع الدنيا البتة، وقوله تعالى: {الذي له ملك السموات والأرض} إشارة إلى احتياج هذه المخلوقات إليه سبحانه وتعالى حال حدوثها، وأنه تعالى هو المتصرف فيها كيف يشاء، فلا إنكار أن يرسل رسولًا إلى كل من فيها.تنبيه: يجوز في الذي الرفع نعتًا للذي الأول أو بيانًا أو بدلًا، أو خبرًا لمبتدأ محذوف والنصب على المدح، وما بعده يدل على أنه من تمام الصلة، فليس أجنبيًا فلا يضر الفصل به بين الموصول الأول والثاني إذا جعلنا الثاني تابعًا له {ولم يتخذ ولدًا} أي: هو الفرد أبدًا ولا يصح أن يكون غيره تعالى معبودًا ووارثًا للملك عنه، وهذا رد على النصارى، {ولم يكن له شريك في الملك} أي: هو المنفرد بالألوهية، وإذا عرف العبد ذلك انقطع رجاؤه عن كل من سواه تعالى ولم يشتغل قلبه إلا برحمته وإحسانه، وفيه ردّ على الوثنية القائلين بعبادةالنجوم والأوثان، ولما نفى تعالى الشريك، فكأن قائلًا يقول: هاهنا أقوام يعترفون بنفي الشريك والشركاء والأنداد ومع ذلك يقولون: يخلق أفعال أنفسهم، فرد الله تعالى عليهم بقوله: {وخلق كل شيء} أي: من شأنه أن يخلق ومنه أفعال العباد، والخلق هنا بمعنى الإحداث أي: أحدث كل شيء إحداثًا مراعى فيه التقدير والتسوية {فقدره تقديرًا} أي: هيأه لما يصلح له، مثاله أنه خلق الإنسان على هذا الشكل المقدر الذي تراه، فقدره للتكاليف والمصالح المنوطة به في بابي الدين والدنيا، وكذلك كل حيوان وجماد جاء به على الجبلة المستوية المقدرة، وسمي إحداث الله خلقًا؛ لأنه لا يحدث شيئًا لحكمة إلا على وجه التقدير من غير تفاوت.فإذا قيل: خلق الله كذا، فهو بمنزلة قولك: أحدث وأوجد من غير نظر إلى وجه الاشتقاق، فكأنه قيل: وأوجد كل شيء فقدره تقديرًا في إيجاده، ولم يوجده متفاوتًا، ولو حمل خلق كل شيء على معناه الأصلي من التقدير لصار الكلام: وقدر كل شيء فقدره، فلم يصر له كبير فائدة، وقيل: فجعل له غاية ومنتهى ومعناه: فقدره للبقاء إلى أمد معلوم، واختلف في عود الضمير في قوله تعالى: {واتخذوا من دونه} أي: الله تعالى أي: غيره {آلهة} على ثلاثة أوجه:أحدها: أنه يعود على الكفار الذين تضمنهم لفظ العالمين.ثانيها: أنه يعود على من ادعى لله شريكًا وولدًا لدلالة قوله تعالى: {ولم يتخذ ولدًا ولم يكن له شريك في الملك}.ثالثها: أنه يعود على المنذرين لدلالة نذيرًا عليهم، ولما وصف نفسه سبحانه وتعالى بصفات الجلال والعزة والعلو أردفه بتزييف مذهب من يعبد غيره من وجوه منها: أنها ليست خالقة للأشياء بقوله تعالى: {لا يخلقون شيئًا} والإله يجب أن يكون قادرًا على الخلق والإيجاد، ومنها: أنها مخلوقة بقوله تعالى: {وهم يخلقون} والمخلوق محتاج والإله يجب أن يكون غنيًا، وغلب العقلاء على غيرهم؛ لأن الكفار كانوا يعبدون العقلاء كعزير والمسيح والملائكة، وغيرهم كالكواكب والأصنام التي ينحتونها ويصورونها، ومنها: أنها لا تملك لأنفسها ضرًا ولا نفعًا بقوله تعالى: {ولا يملكون} أي: لا يستطيعون {لأنفسهم ضرًا} أي: دفعه {ولا نفعًا} أي: جلبه ومن كان كذلك، فليس بإله، ومنها: أنها لا تقدر على موت ولا حياة ولا نشور بقوله تعالى: {ولا يملكون موتًا ولا حياة} أي: إماتة لأحد وإحياء لأحد {ولا نشورًا} أي: بعثًا للأموات، فيجب أن يكون المعبود قادرًا على إيصال الثواب إلى المطيعين، والعقاب إلى العصاة، فمن لا يكون كذلك يجب أن لا يصلح للإلهية.تنبيه: احتج أهل السنة بقوله تعالى: {لايخلقون شيئًا} على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى؛ لأنه تعالى عاب هؤلاء الكفار من حيث عبدوا ما لا يخلق شيئًا، وذلك يدل على أن من خلق يستحق أن يعبد، فلو كان العبد خالقًا لكان معبودًا إلهًا، ولما تكلم تعالى أولًا على التوحيد، وثانيًا في الرد على عبدة غيره تكلم، ثالثًا في مسألة النبوة، وحكى شبه الكفار في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.الشبهة الأولى:قوله تعالى: {وقال الذين كفروا} أي: مظهرو الوصف الذي حملهم على هذا القول، وهو ستر ما ظهر لهم ولغيرهم كالشمس والاجتهاد في إخفائه {إن} أي: ما {هذا} أي: القرآن {إلا إفك} أي: كذب مصروف عن وجهه {افتراه} اختلقه محمد صلى الله عليه وسلم {وأعانه عليه} أي: القرآن {قوم آخرون} أي: من غير قومه، وهم اليهود فإنهم يلقون إليه أخبار الأمم وهو يعبر عنها بعبارته، وقيل: عداس مولى حويطب بن عبد العزى ويسار مولى العلاء بن الحضرمي، وأبو فكيهة الرومي كانوا بمكة من أهل الكتاب فزعم المشركون أن محمدًا يأخذ منهم فردّ الله تعالى عليهم بقوله تعالى: {فقد جاؤوا} أي: قائلوا هذه المقالة {ظلمًا} وهو جعل الكلام المعجز إفكًا مختلقًا متلقفًا من اليهود، وجعلوا العربي يتلقن من العجمي الرومي كلامًا عربيًا أعجز بفصاحته جميع فصحاء العرب {وزورًا} أي: بهتوه بنسبة ما هو بريء منه إليه، وقرأ ابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار الدال، والباقون بالإدغام.
|