الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الخازن: قوله: {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون} يعني ومكنّا القوم الذين كانوا يقهرون ويغلبون على أنفسهم وهو أن فرعون وقومه كانوا قد تسلطوا على بني إسرائيل فقتلوا أبناءهم واستخدموهم فصيروهم مستضعفين تحت أيديهم {مشارق الأرض ومغاربها} يعني أرض الشام ومصر وأراد بمشارقها ومغاربها جميع جهاتها ونواحيها.وقيل: أراد بمشارق الأرض ومغاربها الأرض المقدسة وهو بيت المقدس وما يليه من الشرق والغرب.وقيل: أراد جميع جهات الأرض وهو اختيار الزجاج قال: لأن داود وسليمان صلوات الله وسلامه عليهما كانا من بني إسرائيل وقد ملكا الأرض.وقوله: {التي باركنا فيها} يدل على أنها الأرض المقدسة يعني باركنا فيها بالثمار والأشجار والزروع والخصب والسعة {وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل} يعني وتمت كلمة الله وهي وعدهم بالنصر على عدوهم والتمكين في الأرض من بعدهم وقيل كلمة الله هي قوله: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض} الآية والحسنى صفة للكلمة وهي تأنيث الأحسن وتمامها إنجاز ما وعدهم به من تمكينهم في الأرض وإهلاك عدوهم {بما صبروا} يعني إنما حصل لهم ذلك التمام وهو ما أنعم الله تعالى بهم عليهم من إنجاز وعده لهم بسبب صبرهم على دينه وأذى فرعون لهم {ودمرنا} يعني وأهلكنا والدمار الهلاك باستئصال {ما كان يصنع فرعون وقومه} في أرض مصر من العمارات والبينان {وما كانوا يعرشون} يعني يسقفون من ذلك البنيان وقال مجاهد: ما كانوا يبنون من البيوت والقصور.وقال الحسن: وما كانوا يعرشون من الثمار والأعناب. اهـ..قال أبو حيان: {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها}.لما قال موسى عليه السلام {عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض} كان كما ترجى موسى فأغرق أعداءهم في اليم واستخلف بني إسرائيل في الأرض {والذين كانوا يستضعفون} هم بنو إسرائيل كان فرعون يستعبدهم ويستخدمهم والاستضعاف طلب الضعيف بالقهر كثر استعماله حتى قيل استضعفه أي وجده ضعيفًا {مشارق الأرض ومغاربها} قالت فرقة: هي الأرض كلها، قال ابن عطية ذلك على سبيل المجاز لأنه تعالى ملكهم بلادًا كثيرة وأما على الحقيقة فإنه ملك ذريّتهم وهو سليمان بن داود، وقال الحسن أيضًا: {مشارق الأرض} الشام {ومغاربها} ديار مصر ملكهم الله إياها بإهلاك الفراعنة والعمالقة وقاله الزمخشري قال: وتصرفوا فيها كيف شاؤوا في أطرافها ونواحيها الشرقية والغربية، وقال الحسن أيضًا وقتادة وغيرهما: هي أرض الشام، وفي كتاب النقاش عن الحسن: أرض مصر والبركة فيها بالماء والشجر قاله ابن عباس وذيله غيره فقال بالخصب والأنهار وكثرة الأشجار وطيب الثمار، وقيل: البركة بإقدام الأنبياء وكثرة مقامهم بها ودفنهم فيها وهذا يتخرج على من قال أرض الشام، وقيل: {باركنا} جعلنا الخير فيها دائمًا ثابتًا وهذا يشير إلى أنها مصر.وقال الليث هي مصر بارك الله فيها بما يحدث عن نيلها من الخيرات وكثرة الحبوب والثمرات وعن عمر رضي الله عنه أن نيل مصر سيّد الأنهار في حديث طويل وروي أنه كانت الجنات بحافتي هذا النيل من أوله إلى آخره في البرين جميعًا ما بين أسوان إلى رشيد وكانت الأشجار متصلة لا ينقطع منها شيء عن شيء، وقال أبو بصرة الغفاري: مصر خزائن الأرض كلها، ألا ترى إلى قول يوسف عليه السلام: {اجعلنى على خزائن الأرض} ويروي أن عيسى عليه السلام أقام بها اثنتي عشرة سنة وذلك أن الله أوحى إلى مريم أن الحقي بمصر وأرضها وذكر أنها الرّبوة التي قال تعالى: {وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين} وقال ابن عمر: البركات عشر ففي مصر تسع وفي الأرض كلها واحدة، وانتصاب مشارق على أنه مفعول ثان لأورثنا و{التي باركنا} نعت لمشارق الأرض ومغاربها وقول الفرّاء إنّ انتصاب {مشارق} والمعطوف عليها على الظرفية والعامل فيهما هو {يستضعفون} و{التى باركنا} هو المفعول الثاني أي الأرض التي باركنا فيها تكلف وخروج عن الظاهر بغير دليل ومن أجاز أن تكون {التي} نعتًا للأرض فقوله ضعيف للفصل بالعطف بين المنعوت ونعته.{وتمت كلمت ربك الحسنى على بنى إسرائيل بما صبروا} أي مضت واستمرت من قولهم تمّ على الأمر إذا مضى عليه، قال مجاهد: المعنى ما سبق لهم في علمه وكلامه في الأزل من النجاة من عدوهم والظهور عليه، وقال المهدوي وتبعه الزمخشري: الكلمة قوله تعالى: {ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض}- إلى قوله- {ما كانوا يحذرون} وقيل: هي قوله: {عسى ربكم أن يهلك عدوكم} الآية، وقيل: الكلمة النعمة والحسنى تأنيث الأحسن وهي صفة للكلمة وكانت الحسنى لأنها وعد بمحبوب قاله الكرماني والمعنى على من بقي من مؤمني بني إسرائيل {بما صبروا} أي بصبرهم، وقرأ الحسن كلمات على الجمع ورويت عن عاصم وأبي عمرو، قال الزمخشري: ونظيره {لقد رأى من آيات ربه الكبرى} انتهى، يعني نظير وصف الجمع بالمفرد المؤنث ولا يتعيّن ما قاله من أن الكبرى نعت لآيات ربه إذ يحتمل أن يكون مفعولًا لقوله رأى أيّ الآية الكبرى فيكون في الأصل نعتًا لمفرد مؤنث لا يجمع وهو أبلغ في الوصف.{ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون} أي خربنا قصورهم وأبنيتهم بالهلاك والتدمير الإهلاك وإخراب الأبنية، وقيل: ما كان يصنع من التدبير في أمر موسى عليه السلام وإخماد كلمته.وقيل: المراد إهلاك أهل القصور والمواضع المنيعة وإذا هلك الساكن هلك المسكون {وما كانوا يعرشون} أي يرفعون من الأبنية المشيدة كصرح هامان وغيره، وقال الحسن: المراد عرش الكروم ومنه {وجنات معروشات}، وقرأ ابن عامر وأبو بكر بضم الراء وباقي السبعة والحسن ومجاهد وأبو رجاء بكسر الراء هنا وفي النحل وهي لغة الحجاز، وقال اليزيدي: هي أفصح، وقرأ ابن أبي عبلة يعرشون بضم الياء وفتح العين وتشديد الراء وانتزع الحسن من هذه الآية أنه ينبغي أنه لا يخرج على ملوك السماء وإنما ينبغي أن نصبر لهم وعليهم فإنّ الله يدمّرهم، وروي عنه وعن غيره إذا قابل الناس البلاء بمثله وكلهم الله إليه وإذا قابلوه بالصبر وانتظار الفرج أتى الفرج، قال الزمخشري: وبلغني أنه قرأ بعض الناس يغرسون من غرس الأشجار وما أحسبه إلا تصحيفًا وهذا آخر ما اقتصّ الله تعالى من نبأ فرعون والقبط وتكذيبهم بآيات الله وظلمهم ومعارضته ثم أتبعه اقتصاص نبأ بني إسرائيل وما أحدثوه بعد إنقاذهم من مملكة فرعون، واستعباده، ومعاينتهم الآيات العظام ومجاوزتهم البحر من عبادة البقر، وطلب رؤية الله جهرة، وغير ذلك من أنواع الكفر والمعاصي ليعلم حال الإنسان وأنه كما وصف ظلوم كفار جهول كفور إلاّ من عصمه الله تعالى: {وقليل من عبادي الشكور} وليسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم مما رأى من بني إسرائيل بالمدينة. اهـ..قال أبو السعود: {وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ} أي بالاستبعاد وذبحِ الأبناءِ، والجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبلِ للدِلالة على استمرار الاستضعافِ وتجدّدِه وهم بنو إسرائيلَ ذُكروا بهذا العُنوانِ إظهارًا لكمال لُطفِه تعالى بهم وعظيمِ إحسانِه إليهم في رفعهم من حضيض المذلةِ إلى أوْج العزة {مشارق الأرض ومغاربها} أي جانبيها الشرقيَّ والغربيَّ حيث ملَكها بنو إسرائيلَ بعد الفراعنةِ والعمالقةِ وتصرّفوا في أكنافها الشرقيةِ والغربية كيف شاؤوا، وقوله تعالى: {التى بَارَكْنَا فِيهَا} أي بالخِصْب وسَعةِ الأرزاقِ، صفةٌ للمشارق والمغارب، وقيل: للأرض وفيه ضعفٌ للفصل بين الصفةِ والموصوفِ بالمعطوف كما في قولك: قام أم هند وأبوها العاقلةُ {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ الحسنى} وهي وعدُه تعالى إياهم بالنصر والتمكين كما ينبئ عنه قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا في الأرض وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين} وقرئ {كلماتُ} لتعدد المواعيدِ ومعنى تمت مضَت واستمرت {على بَنِى إِسْرءيلَ بِمَا صَبَرُواْ} أي بسبب صبرِهم على الشدائد التي كابدوها من جهة فرعونَ وقمِه {وَدَمَّرْنَا} أي خرّبنا وأهلكنا {مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ} من العِمارات والقصورِ أي ودمرنا الذي كان فرعونُ يصنعه على أن فرعونَ اسمُ كان ويصنع خبرٌ مقدمٌ والجملة الكونيةُ صلةُ ما والعائدُ محذوفٌ، وقيل: اسمُ كان ضميرٌ عائدٌ إلى ما الموصولةِ ويصنع مُسندٌ إلى فرعون والجملة خبرُ كان والعائدُ محذوف أيضًا والتقدير ودمرنا الذي كان هو يصنعُه فرعونُ الخ، وقيل: كان زائدةٌ وما مصدريةٌ والتقديرُ ما يصنع فرعون الخ، وقيل: كان زائدةٌ كما ذكر وما موصولةٌ اسميةٌ والعائد محذوف تقديره ودمرنا الذي يصنعه فرعون إلخ أي صُنعَه، والعدولُ إلى صيغة المضارعِ على هذين القولين لاستحضار الصورة {وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ} من الجنات أو ما كانوا يرفعونه من البُنيان كصرح هامانَ وقرئ {يعرُشون} بضم الراءِ والكسرُ أفصح وهذا آخِرُ قصةِ فرعونَ وقومه. اهـ..قال الألوسي: {وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ}.بالاستعباد وذبح الأبناء، والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على استمرار الاستضعاف وتجدده، والمراد بهم بنو إسرائيل، وذكروا بهذا العنوان إظهار الكمال اللطف بهم وعظم الإحسان إليهم حيث رفعوا من حضيض المذلة إلى أوج العزة، ولعل فيه إشارة إلى إن الله سبحانه عند القلوب المنكسرة.ونصب القوم على أنه مفعول أول لأورثنا والمفعول الثاني قوله سبحانه: {مشارق الأرض وَمَغَاربَهَا} أي جميع جهاتها ونواحيها، والمراد بها على ما روي عن الحسن وقتادة وزيد بن أسلم أرض الشام، وذكر محي السنة البغوي أنها أرض الشام ومصر، وفي رواية أنها أرض مصر التي كانت بأيدي المستضعفين، وإلى ذلك ذهب الجبائي، ورواه أبو الشيخ عن الليث بن سعد، أي أورثنا المستضعفين أرض مستضعفيهم وملكهم، ومعنى توريثهم إياها على القول بأنهم لم يدخلوها بعد أن خرجوا منها مع موسى عليه السلام إدخالها تحت ملكهم وعدم وجود مانع لهم عن التصرف فيها أو تمكين أولادهم فيها وذلك في زمن داود وسليمان عليهما السلام، ولا يخفى أنه خلاف المتبادر كما مرت الإشارة إليه.على أن أرض مصر بعد أن فتحت في زمن داود عليه السلام لم يكن لبني إسرائيل تمكن فيها واستقرار وإنما كان ملك وتصرف وكان التمكن في الأرض المقدسة، والسوق على ما قيل يقتضي ذكر ما تمكنوا فيه لا ما ملكوه، وأقول قد يقال: المراد بالأرض هنا وفيما تقدم من قوله سبحانه: {عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض} [الأعراف: 129] الأرض المقدسة التي طلب موسى عليه السلام من فرعون بني إسرائيل ليذهب بهم إليها فإنها موطن آبائهم فيكون موسى عليه السلام قد وعدهم هلاك عدوهم المانع لهم من الذهاب إليها وجعل الله تعالى إياهم خلفاء فيها بعد آبائهم وأسلافهم أو بعد من هي في يده إذ ذاك من العمالقة ثم أخبر سبحانه هنا أن الوعد قد نجز وقد أهلكنا أعداء أولئك الموعودين وأورثناهم الأرض التي منعوهم عنها ومكناهم فيها وفي حصول بغية موسى عليه السلام وما ألطف توريث الأبناء مساكن الآباء {التي باركنا فيهَا} بالخصب وسعة الأرزاق أو بذلك وبكونها مساكن الأنبياء عليهم السلام والصالحين وذلك ظاهر على تقدير أن يراد بمشارق الأرض ومغاربها الشام ونواحيها.
|