الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
الثاني: بل المراد لا يقبل منكم فدية تدفعون بها العذاب عن أنفسكم، كقوله تعالى: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شفاعة} [البقرة: 123]، واعلم أن الفدية ما يفتدى به فهو يتناول الإيمان والتوبة والمال، وهذا يدل على أن قبول التوبة غير واجب عقلًا على ما تقوله المعتزلة لأنه تعالى بين أنه لا يقبل الفدية أصلًا والتوبة فدية، فتكون الآية دالة على أن التوبة غير مقبولة أصلًا، وإذا كان كذلك لم تكن التوبة واجبة القبول عقلًا أما قوله: {وَلاَ مِنَ الذين كَفَرُواْ} ففيه بحث: وهو عطف الكافر على المنافق يقتضي أن لا يكون المنافق كافرًا لوجوب حصول المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه والجواب: المراد الذين أظهروا الكفر وإلا فالمنافق كافر.ثم قال تعالى: {مَأْوَاكُمُ النار هي مولاكم وَبِئْسَ المصير}.وفي لفظ المولى هاهنا أقوال: أحدها قال ابن عباس: {مولاكم} أي مصيركم، وتحقيقه أن المولى موضع الولي، وهو القرب، فالمعنى أن النار هي موضعكم الذي تقربون منه وتصلون إليه، والثاني: قال الكلبي: يعني أولى بكم، وهو قول الزجاج والفراء وأبي عبيدة، واعلم أن هذا الذي قالوه معنى وليس بتفسير للفظ، لأن لو كان مولى وأولى بمعنى واحد في اللغة، لصح استعمال كل واحد منهما في مكان الآخر، فكان يجب أن يصح أن يقال: هذا مولى من فلان كما يقال: هذا أولى من فلان، ويصح أن يقال: هذا أولى فلان كما يقال: هذا مولى فلان، ولما بطل ذلك علمنا أن الذي قالوه معنى وليس بتفسير، وإنما نبهنا على هذه الدقيقة لأن الشريف المرتضى لما تسمك بإمامة علي، بقوله عليه السلام: «من كنت مولاه فعلي مولاه» قال: أحد معاني مولى أنه أولى، واحتج في ذلك بأقوال أئمة اللغة في تفسير هذه الآية، بأن مولى معناه أولى، وإذا ثبت أن اللفظ محتمل له وجب حمله عليه، لأن ما عداه إما بين الثبوت، ككونه ابن العم والناصر، أو بين الإنتفاء، كالمعتق والمعتق، فيكون على التقدير الأول عبثًا، وعلى التقدير الثاني كذبًا، وأما نحن فقد بينا بالدليل أن قول هؤلاء في هذا الموضع معنى لا تفسير، وحينئذ يسقط الاستدلال به، وفي الآية وجه آخر: وهو أن معنى قوله: {هِيَ مولاكم} أي لا مولى لكم، وذلك لأن من كانت النار مولاه فلا مولى له، كما يقال: ناصره الخذلان ومعينه البكاء، أي لا ناصر له ولا معين، وهذا الوجه متأكد بقوله تعالى: {وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ} [محمد: 11] ومنه قوله تعالى: {يُغَاثُواْ بِمَاء كالمهل} [الكهف: 29]. اهـ.
وقرأ حمزة وحده وابن وثاب وطلحة والأعمش: {أنظِرونا} بقطع الألف وكسر الظاء على وزن أكرم.ومنه قول عمرو بن كلثوم: الوافر: ومعناه: أخرونا، ومنه النظرة إلى الميسرة، وقول النبي عليه السلام: «من أنظر معسرًا» الحديث، ومعنى قولهم: أخرونا، أخروا مشيكم لنا حتى نلحق فـ: {نقتبس من نوركم}، واقتبس الرجل واستقبس أخذ من نور غيره قبسًا. وقوله تعالى: {قيل ارجعوا وراءكم} يحتمل أن يكون من قول المؤمنين، ويحتمل أن يكون من قول الملائكة.وقوله: {وراءكم} حكى المهدوي وغيره من المفسرين أنه لا موضع له من الإعراب، وأنه كما لو قال ارجعوا ارجعوا، وأنه على نحو قول أبي الأسود الدؤلي للسائل: وراءك أوسع لك.قال القاضي أبو محمد: ولست أعرف مانعًا يمنع من أن يكون العامل فيه {ارجعوا}، والقول لهم: {فالتمسوا نورًا} هو على معنى التوبيخ لهم، أي أنكم لا تجدونه.ثم أعلم عز وجل أنه يضرب بينهم في هذه الحال {بسور} حاجز، فيبقى المنافقون في ظلمة ويأخذهم العذاب من الله، وحكي عن ابن زيد أن هذا السور هو الأعراف المذكورفي سورة (الأعراف) وقد حكاه المهدوي، وقيل هو حاجز آخر غير ذلك، وقال عبد الله بن عمر وكعب الأحبار وعبادة بن الصامت وابن عباس: هو الجدار الشرقي في مسجد بيت المقدس. وقال زياد بن أبي سوادة: قام عبادة على السور الشرقي من بيت المقدس فبكى وقال: من هاهنا أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى جهنم.قال القاضي أبو محمد: وفيه باب يسمى باب الرحمة، سماه في تفسير هذه الآية عبادة وكعب. وفي الشرق من الجدار المذكور واد يقال له: وادي جهنم، سماه في تفسير هذه الآية عبد الله بن عمر وابن عباس، وهذا القول في السور بعيد، والله أعلم وقال قتادة وابن زيد، {الرحمة}: الجنة. و{العذاب}: جهنم.والسور في اللغة الحجي الذي للمدن وهو مذكور. والسور أيضًا جمع سورة، وهي القطعة من البناء ينضاف بعضها إلى بعض حتى يتم الجدار، فهذا اسم جمع يسوغ تذكيره وتأنيثه، وهذا الجمع هو الذي أراد جرير في قوله: الكامل: وذلك أن المدينة لم يكن لها قط حجي، وأيضًا فإن وصفه أن جميع ما في المدينة من بناء تواضع أبلغ، ومن رأى أنه قصد قصد السور الذي هو الحجي، قال: إن ذلك إذا تواضع فغيره من المباني أحرى بالتواضع.قال القاضي أبو محمد: فإذا كان السور في البيت محتملًا للوجهين فليس هو في قوة مر الرياح وصدر القناة وغير ذلك مما هو مذكر محض استفاد التأنيث مما أضيف إليه.وقوله تعالى: {باطنه فيه الرحمة} أي جهة المؤمنين، {وظاهره} جهة المنافقين، والظاهر هنا البادي، ومنه قول: من ظاهر مدينة كذا، وقوله تعالى: {ينادونهم} معناه: ينادي المنافقون المؤمنين {ألم نكن معكم} في الدنيا؟ فيرد المؤمنون عليهم: {بلى} كنتم معنا، ولكنكم عرضتم أنفسكم للفتنة، وهو حب العاجل والقتال عليه، قال مجاهد: {فتنتم أنفسكم} بالنفاق.{وتربصتم} معناه هنا: بأمانكم {فأبطأتم} به حتى متم. وقال قتادة معناه: تربصتم بنا وبمحمد عليه السلام الدوائر وشككتم في أمر الله. والارتياب: التشكك. و: {الأماني} التي غرتهم هي قولهم: سيهلك محمد هذا العام ستهزمه قريش، ستأخذه الأحزاب، إلى غير ذلك من أمانيهم، وطول الأمل غرار لكل أحد، و{أمر الله} الذي {جاء} هو الفتح وظهور الإسلام، وقيل هو موت المنافقين وموافاتهم على هذه الحال الموجبة للعذاب و: {الغرور} الشيطان بإجماع من المتأولين.وقرأ سماك بن حرب بضم الغين، وأبو حيوة. وينبغي لكل مؤمن أن يعتبر هذه الآية في نفسه وتسويفه في توبته.قوله تعالى: {فاليوم لا يؤخذ} استمرار في مخاطبة المنافقين. قاله قتادة وغيره: وروي في معنى قوله: {ولا من الذين كفروا} حديث، وهو أن الله تعالى يقرر الكافرين فيقول له: أرأيتك لو كان لك أضعاف الدنيا أكنت تفتدي بجميع ذلك من عذاب النار؟ فيقول: نعم يا رب، فيقول الله تعالى: قد سألتك ما هو أيسر من هذا وأنت في صلب أبيك آدم أن لا تشرك بي فأبيت إلا الشرك.وقرأ جمهور القراء والناس: {يؤخذ} بالياء من تحت. وقرأ أبو جعفر القارئ:{تؤخذ} بالتاء من فوق، وهي قراءة ابن عامر في رواية هشام عنه، وهي قراءة الحسن وابن أبي إسحاق والأعرج.وقوله: {هي مولاكم} قال المفسرون معناه: هي أولى بكم، وهذا تفسير بالمعنى، وإنما هي استعارة، لأنها من حيث تضمنهم وتباشرهم هي تواليهم وتكون لهم مكان المولى، وهذا نحو قول الشاعر عمرو بن معد يكرب: الوافر: وقوله تعالى: {ألم يأن} الآية ابتداء معنى مستأنف، وروي أنه كثر المزاح والضحك في بعض تلك المدة في قوم من شبان المسلمين فنزلت هذه الآية. وقال ابن مسعود: مل الصحابة ملة فنزلت الآية. اهـ.
أي انتظرنا.{نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} أي نستضيء من نوركم.
|