الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال النسفي: سورة الفجر:بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ{والفجر} أقسم بالفجر وهو الصبح كقوله: {والصبح إِذَا أَسْفَرَ} [المدثر: 34]، أو بصلاة الفجر {وَلَيالٍ عشر} عشر ذي الحجة أو العشر الأول من المحرم، أو الآخر من رمضان.وإنما نكرت لزيادة فضيلتها {والشفع والوتر} شفع كل الأشياء ووترها أو شفع هذه الليالي ووترها، أو شفع الصلاة ووترها، أو يوم النحر لأنه اليوم العاشر ويوم عرفة لأنه اليوم التاسع، أو الخلق والخالق.{والوتر} حمزة وعلى، وبفتح الواو غيرهما، وهما لغتان: فالفتح حجازي والكسر تميمي.وبعد ما أقسم بالليالي المخصوصة أقسم بالليل على العموم فقال: {واليل} وقيل: أريد به ليلة القدر {إِذَا يسر} إذا يمضي وياء {يسر} تحذف في الدرج اكتفاء عنها بالكسرة، وأما في الوقف فتحذف مع الكسرة.وسأل واحد الأخفش عن سقوط الياء فقال: لا، حتى تخدمني سنة فسأله بعد سنة فقال: الليل لا يسري وإنما يسرى فيه، فلما عدل عن معناه عدل عن لفظه موافقة.وقيل: معنى يسري: يسرى فيه كما يقال: ليل نائم أي ينام فيه.{هَلْ في ذَلِكَ} أي فيما أقسمت به من هذه الأشياء {قَسَمٌ} أي مقسم به {لِّذِى حجر} عقل سمي به لأنه يحجر عن التهافت فيما لا ينبغي كما سمي عقلاً ونهية لأنه يعقل وينهى، يريد هل تحقق عنده أن تعظم هذه الأشياء بالإقسام بها، أو هل في إقسامي بها إقسام {لذي حجر} أي هل هو قسم عظيم يؤكد بمثله المقسم عليه؟ أو هل في القسم بهذه الأشياء قسم مقنع لذي عقل ولب؟ والمقسم عليه محذوف وهو قوله (ليعذبن) يدل عليه قوله: {أَلَمْ تَرَ} إلى قوله: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عذاب}.ثم ذكر تعذيب الأمم التي كذبت الرسل فقال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بعاد إِرَمَ ذاتِ العماد} أي ألم تعلم يا محمد علما يوازي العيان في الإيقان؟ وهو استفهام تقرير قيل: لعقب عاد ابن عوص بن إرم بن سام بن نوح عاد ما يقال لبني هاشم هاشم، ثم قيل للأولين منهم: عاد الأولى، والإرم تسمية لهم باسم جدهم ومن بعدهم عاد الأخيرة، ف {إِرَمَ} عطف بيان لـ: {عَادٍ} وإيذان بأنهم عاد الأولى القديمة.وقيل: إرم بلدتهم وأرضهم التي كانوا فيها ويدل عليه قراءة ابن الزبير {بعاد إِرَمَ} على الإضافة وتقديره بعاد أهل إرم كقوله: {واسئل القرية} [يوسف: 82] ولم تنصرف قبيلة كانت أو أرضاً للتعريف والتأنيث و{ذات العماد} إذا كانت صفة للقبيلة، فالمعنى أنهم كانوا بدويين أهل عمد أو طوال الأجسام على تشبيه قدودهم بالأعمدة وإن كانت صفة للبلدة أنها ذات أساطين.ورُوي أنه كان لعاد ابنان: شداد وشديد فملكا وقهرا، ثم مات شديد وخلص الأمر لشداد فملك الدنيا ودانت له ملوكها فسمع بذكر الجنة فقال: أبني مثلها فبنى إرم في بعض صحارى عدن في ثلثمائة سنة وكان عمره تسعمائة سنة وهي مدينة عظيمة قصورها من الذهب والفضة، وأساطينها من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف الأشجار والأنهار.ولما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته، فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا.وعن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له فوقع عليها فحمل ما قدر عليه مما ثمة، وبلغ خبره معاوية فاستحضره فقص عليه فبعث إلى كعب فسأله فقال: هي إرم ذات العماد وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عقبه خال يخرج في طلب إبل له، ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال: هذا والله ذلك الرجل {التى لَمْ يُخلق مِثْلُهَا في البلاد} أي مثل عاد في قوتهم وطول قامتهم، كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع، أو لم يخلق مثل مدينة شداد في جميع بلاد الدنيا {وثمود الذين جَابُواْ الصخر} قطعوا صخر الجبال واتخذوا فيها بيوتاً.قيل: أول من نحت الجبال والصخور ثمود، وبنوا ألفاً وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة {بالواد} بوادي القرى {وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد} أي ذي الجنود الكثيرة وكانت لهم مضارب كثيرة يضربونها إذا نزلوا.وقيل: كان له أوتاد يعذب الناس بها كما فعل بآسية {الذين} في محل النصب على الذم، أو الرفع على (هم الذين)، أو الجر على وصف المذكورين عاد وثمود وفرعون {طَغَوْاْ في البلاد} تجاوزوا الحد {فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد} بالكفر والقتل والظلم {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عذاب} مجاز عن إيقاع العذاب بهم على أبلغ الوجوه إذا الصب يشعر بالدوام والسوط بزيادة الإيلام أي عذبوا عذاباً مؤلما دائماً {إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} وهو المكان الذي يترقب فيه الرصد مفعال من رصده، وهذا مثل لإرصاده العباد وأنهم لا يفوتونه، وأنه عالم بما يصدر منهم وحافظه فيجازيهم عليه إن خيراً فخير وإن شراً فشر.{فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ ونعمه فَيَقول رَبّى أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابتلاه فَقدر عَلَيْهِ رِزْقَهُ} أي ضيق عليه وجعله بمقدار بلغته، {فَقدر} شامي ويزيد {فَيَقول رَبّى أَهَانَنِ} أي الواجب لمن ربه بالمرصاد أن يسعى للعاقبة ولا تهمه العاجلة، وهو قد عكس فإنه إذا امتحنه ربه بالنعمة والسعة ليشكر، قال: ربي أكرمني أي فضلني بما أعطاني فيرى الإكرام في كثرة الحظ من الدنيا، وإذا امتحنه بالفقر فقدر عليه رزقه ليصبر، قال: {ربي أهانني} فيرى الهوان في قلة الحظ من الدنيا لأنه لا تهمه إلا العاجلة وما يلذه وينعمه فيها، فرد عليه زعمه بقوله: {كَلاَّ} أي ليس الإكرام والإهانة في كثرة المال وقلته بل الإكرام في توفيق الطاعة والإهانة في الخذلان، وقوله تعالى: {فَيَقول} خبر المبتدأ الذي هو الإنسان، ودخول الفاء لما في (أما) من معنى الشرط، والظرف المتوسط بين المبتدأ والخبر في تقدير التأخير كأنه قيل: فأما الإنسان فقائل ربي أكرمن وقت الابتلاء، وكذا {فَيَقول} الثاني خبر لمبتدأ تقديره: وأما هو إذا ما ابتلاه ربه.وسمى كلا الأمرين من بسط الرزق وتقديره ابتلاء لأن كل واحد منهما اختبار للعبد، فإذا بسط له فقد اختبر حاله أيشكر أم يكفر، وإذا قدر عليه فقد اختبر حاله أيصبر أم يجزع، ونحوه قوله تعالى: {وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً} [الأنبياء: 35].وإنما أنكر قوله: {رَبّى أَكْرَمَنِ} مع أنه أثبته بقوله: {فَأَكْرَمَهُ} لأنه قاله على قصد خلاف ما صححه الله عليه وأثبته وهو قصده إن الله أعطاه ما أعطاه إكراماً له لاستحقاقه كقوله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عِندِى} [القصص: 78] وإنما أعطاه الله تعالى ابتلاء من غير اسحقاق منه.{بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين} أي بل هناك شر من هذا القول وهو أن الله يكرمهم بالغنى فلا يؤدون ما يلزمهم فيه من إكرام اليتيم بالمبرة وحض أهله على طعام المسكين {وَتَأْكُلُونَ التراث} أي الميراث {أَكلا لَّمّاً} ذا لم وهو الجمع بين الحلال والحرام، وكانوا لا يورثون النساء ولا الصبيان ويأكلون تراثهم مع تراثهم {وَتُحِبُّونَ المال} يقال حبه وأحبه بمعنى {حبًّا جَمّاً} كثيراً شديداً مع الحرص ومنع الحقوق، {رَبِّى} حجازي وأبو عمرو {يكرمون} {وَلاَ يحضون} {وَيَأْكُلُونَ} {وَّيُحِبُّونَ} بصري {كَلاَّ} ردع لهم عن ذلك وإنكار لفعلهم.ثم أتى بالوعيد وذكر تحسرهم على ما فرطوا فيه حين لا تنفع الحسرة فقال: {إِذَا دُكَّتِ الأرض} إذا زلزلت {دَكّاً دَكّاً} دكاً بعد دك أي كرر عليها الدك حتى عادت هباء منبثاً.{وَجَاءَ رَبُّكَ} تمثيل لظهور آيات اقتداره وتبيين آثار قهره وسلطانه، فإن واحدا من الملوك إذا حضر بنفسه ظهر بحضوره من آثار الهيبة ما لا يظهر بحضور عساكره وخواصه، وعن ابن عباس: أمره وقضاؤه {والملك صَفّاً صَفّاً} أي ينزل ملائكة كل سماء فيصطفون صفاً بعد صف محدقين بالجن والإنس {وَجِاْيءَ يومئِذٍ بِجَهَنَّمَ} قيل: إنها برزت لأهلها كقوله: {وَبرزت الجحيم لِلْغَاوِينَ} [الشعراء: 91].وقيل: هو مجرى على حقيقته ففي الحديث: «يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها» {يومئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان} أي يتعظ {وأنى لَهُ الذكرى} ومن أين له منفعة الذكرى؟ {يَقول ياليتنى قَدَّمْتُ لِحَيَأتى} هذه وهي حياة الآخرة أي يا ليتني قدمت الأعمال الصالحة في الحياة الفآنية لحياتي الباقية.{فَيومئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عذابهُ أحد} أي لا يتولى عذاب الله أحد لأن الأمر لله وحده في ذلك اليوم {وَلاَ يُوثِقُ} بالسلاسل والأغلال {وَثَاقَهُ أحد} قال صاحب الكشاف: لا يعذب أحد أحدا كعذاب الله ولا يوثق أحد أحدا كوثاق الله.{لاَّ يُعَذِّبُ} {وَلاَ يُوثِقُ} على وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجع إليها أبو عمرو في آخر عمره، والضمير يرجع إلى الإنسان الموصوف وهو الكافر.وقيل: هو أبي بن خلف أي لا يعذب أحد مثل عذابه، ولا يوثق بالسلاسل مثل وثاقه لتناهيه في كفره وعناده.ثم يقول الله تعالى للمؤمن {يا أيتها النفس} إكراماً له كما كلم موسى عليه السلام أو يكون على لسان ملك {المطمئنة} الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن وهي النفس المؤمنة، أو المطمئنة إلى الحق التي سكّنها ثلج اليقين فلا يخالجها شك.ويشهد للتفسير الأول قراءة أبي {يأَيَّتُهَا النفس الآمنة المطمئنة} وإنما يقال لها عند الموت أو عند البعث أو عند دخول الجنة {ارجعى إلى} موعد {رَبِّكِ} أو ثواب ربك {راضية} من الله بما أوتيت {مرضية} عند الله بما عملت {فادخلى في عِبَادِى} في جملة عبادي الصالحين فانتظمي في سلكهم {وادخلى جَنَّتِى} معهم.وقال أبو عبيدة: أي مع عبادي أو بين عبادي أي خواصي كما قال: {وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ في عِبَادِكَ الصالحين} [النمل: 19]وقيل: {النفس} الروح ومعناه فادخلي في أجساد عبادي كقراءة عبد الله بن مسعود {فِي جسد عبدي} ولما مات ابن عباس بالطائف جاء طائر لم ير على خلقته فدخل في نعشه فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر ولم يدر من تلاها.قيل: نزلت في حمزة بن عبد المطلب.وقيل: في خبيب بن عدي الذي صلبه أهل مكة وجعلوا وجهه إلى المدينة فقال: اللهم إن كان لي عندك خير فحول وجهي نحو قبلتك، فحول الله وجهه نحوها فلم يستطع أحد أن يحوله.وقيل: هي عامة في المؤمنين إذ العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب. اهـ..قال ابن جزي: سورة الفجر:{والفجر}أقسم الله تعالى بالفجر وهو الطالع كل يوم كما أقسم بالصبح، وقيل: أراد صلاة الفجر: وقيل: أراد النهار كله، وقيل: فجر يوم الجمعة ولا دليل على هذه التخصيصات وقيل: أراد انفجار العيون من الحجارة وهذا بعيد والاول أظهر وأشهر.{وَلَيالٍ عشر} هي عشر ذي الحجة عند الجمهور، وقيل: العشر الأول من المحرم وفيها عاشوراء وقيل: العشر الأواخر من رمضان، وقيل: العشر الأول منه.{والشفع والوتر} روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن الشفع يوم النحر والوتر يوم عرفة» وروي عنه عليه الصلاة والسلام «أنها الصلوات منها شفع ووتر» وقيل: الشفع التنفل بالصلاة مثنى مثنى والوتر الركعة الواحدة المعروفة، وقيل: الشفع العالم والوتر الله لأنه واحد، وقيل: الشفع آدم وحواء والوتر الله تعالى، وقيل: الشفع الصفا والمروة والوتر البيت الحرام، وقيل: الشفع أبواب الجنة لأنها ثمانية والوتر أبواب النار لأنها سبعة، وقيل: الشفع قرآن الحج والوتر إفراده، وقيل: المراد الأعداد منها شفع ووتر. فهذه عشرة أقوال.وقرئ {الوتر} بفتح الواو وكسرها وهما لغتان.{واليل إِذَا يسر} أي إذا يذهب فهو كقوله: {والليل إِذْ أَدْبَرَ} [المدثر: 33] وقيل أراد يسري فيه فهو على هذا كقولهم: ليلُه قائم، والمراد على هذا ليلة جمع لأنها التي يسري فيها والأول أشهر وأظهر.{هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حجر} هذا توقيف يراد به تعظيم الأشياء التي أقسم بها. والحجر هنا هو: العقل. كأنه يقول: إن هذا لقسم عظيم عند ذوي العقول. وجواب القسم محذوف وهو (ليأخذنّ الله الكفار) ويدل على ذلك ما ذكره بعده من أخذ عاد وثمود وفرعون.{إِرَمَ} هي قبيلة عاد سميت باسم أحد أجدادها، كما يقال: هاشم لبني هاشم، وإعرابه بدل من عاد أو عطف بيان وفائدته أن المراد عادا الأولى، فإن عاداً الثانية لا يسمون بهذا الاسم.وقيل: {إرم} اسم مدينتهم فهو على حذف مضاف تقديره: بعاد عاد إرم، ويدل على هذا قراءة ابن الزبير {بعاد إرم} على الإضافة من تنوين عاد وامتنع {إرم} من الصرف على القولين للتعريف والتأنيث {ذَاتِ العماد} من قال: {إرم} قبيلة قال: {العماد} أعمدة بنيانهم أو أعمدة بيوتهم من الشعر لأنهم كانوا أهل عموج، وقال ابن عباس: ذلك كناية عن طول أبدانهم. ومن قال: {إرم} مدينة فـ: {العماد} الحجارة التي بنيت بها، وقيل القصور والأبراج.{التي لَمْ يُخلق مِثْلُهَا فِي البلاد} صفة للقبيلة لأنهم كانوا أعظم الناس أجساماً يقال: كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع. أو صفة للمدينة وهذا أظهر لقوله: {في البلاد} ولأنها كانت أحسن مدائن الدنيا.وروي أنها بناها شداد بن عاد في ثلاثمائة عام، وكان عمره تسعمائة عام وجعل قصورها من الذهب والفضة، وأساطينها من الزبرجد والياقوت وفيها أنواع الشجر والأنهار الجارية.وروي أنه سمع ذكر الجنة فأراد أن يعمل مثلها فلما أتمها وسار إليها بأهل مملكته أهلكهم الله بصيحة، وكانت هذه المدينة باليمن. وروي أن بعض المسلمين مر بها في خلافة معاوية، وقيل: هي دمشق وقيل: الاسكندرية، وهذا ضعيف.{جَابُواْ الصخر بالواد} أي نقبوه ونحتوا فيه بيوتاً والوادي ما بين الجبلين، ون لم يكن فيها ماء، وقيل: أراد وادي القرى.{وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد} ذكر في سورة داود صلى الله عليه وسلم.{الذين طَغَوْاْ فِي البلاد} صفة لعاد وثمود وفرعون ويجوز أن يكون منصوباً على الذم أو خبر ابتداء مضمر.{فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عذاب} استعارة السوط للعذاب؛ لأنه يقتضي من التكرار ما لا يقتضيه السيف وغيره.قاله ابن عطية، وقال الزمخشري: ذكر السوط إشارة إلى عذاب الدنيا، إذ هو أهوب من عذاب الآخرة، كما أن السوط أهون من القتل.{إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} عبارة عن أنه تعالى حاضر بعلمه في كل مكان، وكل زمان ورقيب على كل إنسان، وأنه لا يفوته أحد من الجبابرة والكفار، وفي ذلك تهديد لكفار قريش وغيرهم، والمرصاد المكان الذي يترقب فيه الرصد.{فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ} الابتلاء هو الاختبار واختبار الله لعبده لتقوم الحجة على العبد بما يبدو منه، وقد كان الله عالما بذلك قبل كونه، والإنسان هنا جنس، وقيل: نزلت في عتبة بن ربيعة وهي مع ذلك على العموم، فيمن كان على هذه الصفة. وذكر الله في هذه الآية ابتلاءه للإنسان بالخير، ثم ذكر بعد ابتلاءه بالشر كما قال في [الأنبياء: 35] {وَنَبْلُوكُم بالشر والخير} وأنكر عليه قوله حين الخير: {ربي أكرمني} وقوله حين الشر: {ربي أهانني}.ويتعلق بالآية سؤلان:السؤال الأول:لم أنكر الله على الإنسان قوله: {ربي أكرمني} و{ربي أهانني} والجواب من وجهين:أحدهما: أن الإنسان يقول: {ربي أكرمني} على وجه الفخر بذلك والكبر، لا على وجه الشكر ويقول: {ربي أهانني} على وجه التشكي من الله وقلة الصبر والتسليم لقضاء الله، فأنكر عليه ما يقتضيه كلامه من ذلك، فإن الواجب عليه أن يشكر على الخير ويصبر على الشر.والآخر: أن الإنسان اعتبر الدنيا فجعل بسط الرزق فيها كرامة، وتضييقه إهانة وليس الأمر كذلك؛ فإن الله قد يبسط الرزق لأعدائه، ويضيقه على أوليائه فأنكر الله عليه اعتبار الدنيا والغفلة عن الآخرة، وهذا الإنكار من هذا الوجه على المؤمن. وأما الكافر فإنما اعتبر الدنيا لأنه لا يصدق بالآخرة، ويرى أن الدنيا هي الغاية فأنكر عليه ما يقتضيه كلامه من ذلك.السؤال الثاني:إن قيل: قد قال الله: {فأكرمه} فأثبت إكرامه، فكيف أنكر عليه قوله: {ربي أكرمني}؟فالجواب من ثلاثة أوجه:الأول: أنه لم ينكر عليه ذكره للإكرام، وإنما أنكر عليه ما يدل عليه كلامه من الفخر وقلة الشرك، أو من اعتبار الدنيا دون الآخرة حسبما ذكرنا في معنى الإنكار..الثاني: أنه أنكر عليه قوله: {ربي أ كرمني} إذ اعتقد إن إكرام الله له باستحقاقه الإكرام، على وجه التفضيل والإنعام كقوله قارون: {إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي} [القصص: 78].الثالث: أن الإنكار إنما هو قوله: {ربي أهانني} لا لقوله: {ربي أكرمني} فإن قوله: {ربي أكرمني} اعتراف بنعمة الله، وقوله: {ربي أهانني} شكاية من فعل الله {فَقدر عَلَيْهِ رِزْقَهُ} أي ضيقه.وقرئ بتشديد الدال وتخفيفها بمعنى واحد وفي التشديد مبالغة وقيل: معنى التشديد جعله على قدر معلوم.{كَلاَّ} زجر عما أنكر من قول الإنسان {بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم} هذا ذمّ لما ذكر من الأعمال القبيحة ومعنى هذا الإضراب بل، كأنه أنكر على الإنسان ما تقدم ثم قال بل تفعلون ما هو شر من ذلك وهو ألا تكرموا اليتيم وما ذكر بعده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحب البيوت إلى الله بيت فيه يتيم مكرمَ».{وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين} الحض على الأمر هو الترغيب فيه، ومن لا يحض غيره على أمر فلا يفعله هو، كأنه ذم لترك طعام المسكين، والطعام هنا بمعنى الإطعام، وقيل: هو على حذف مضاف تقديره: لا تحضون على بذل طعام المسكين.وقرئ {تحاضون} بفتح الحاء وألف بعدها بمعنى لا يحض بعضكم بعضاً.{وَتَأْكُلُونَ التراث أَكلا لَّمّاً} التراث هو ما يورث عن الميت من المال، والتاء فيه بدل من الواو، واللم: الجمع واللف، والتقدير: أكلا ذا لمّ وهو أن يأخذ في الميراث نصيبه ونصيب غيره، لأن العرب كانوا لا يعطون من الميراث أنثى ولا صغيراً بل ينفرد به الرجال.{وَتُحِبُّونَ المال حبًّا جَمّاً} أي شديداً كثيراً وهذا دم للحرص على المال وشدة الرغبة فيه.{دُكَّتِ الأرض} أي سوّيت جبالها {دَكّاً دَكّاً} أي دكاً بعد دكّ كما تقول: تعلمت العلم باباً باباً {وَجَاءَ رَبُّكَ} تأويله عند المتأولين: جاء أمره وسلطانه وقال المنذر بن سعيد: معناه ظهوره للخلق هنالك. وهذه الآية وأمثالها من المشكلات التي يجب الإيمان بها من غير تكييف ولا تمثيل {والملك} هو اسم فإنه رُوِي أن الملائكة كلهم يكونون صفوفاً حول الأرض {صَفّاً صَفّاً} أي صفاً بعد صف قد أحدقوا بالجن والإنس.{وجيء يومئِذٍ بِجَهَنَّمَ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتي يومئذ بجهنم معها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها».{يومئِذٍ يَتَذَكَّرُ} {يومئذ} بدل من إذا {دكت} و{يتذكر} هو العامل وهو جواب {إذا دكت}، والمعنى: أن الإنسان يتذكر يوم القيامة أعماله في الدنيا، ويندم على تفريطه وعصيانه، و{الإنسان} هنا جنس، وقيل: يعني عتبة بن ربيعة، وقيل: أمية بن خلف {وأنى لَهُ الذكرى} هذا على حذف تقديره أنى له الانتفاع بالذكرى كما تقول ندم حين لم تنفعه الندامة.{يَقول يا ليتني قَدَّمْتُ لحياتي} فيه وجهان:أحدهما: أنه يريد الحياة في الآخرة فالمعنى: يا ليتني قدّمت عملاً صالحاً للآخرة.والآخر أنه يريد الحياة الدنيا فالمعنى: يا ليتني قدّمت عملاً صالحاً وقت حياتي، فاللام على هذا كقوله كتبت لعشر من الشهر.{فَيومئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عذابهُ أحد} من قرأ بكسر الذال من يعذب والثاء من {يوثق} فالضمير في {عذابه} و{وثاقه} لله تعالى والمعنى: أنه الله يتولى عذاب الكفار ولا يكله إلى أحد.ومن قرأ بالفتح فالضمير للإنسان أي لا يعذّب أحد مثل عذابه، ولا يوثق أحد مثل وثاقه، وهذه قراءة الكسائي ورُوِيَ أن أبا عمرو رجع إليها وهي قراءة حسنة، وقد رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.{يا أيتها النفس المطمئنة} أي الموقنة يقيناً قد اطمئنت به بحيث لا يتطرق إليها شك في الإيمان، وقيل: {المطمئنة} التي لا تخاف حينئذ. ويؤيد هذا قراءة أبيّ بن كعب {يا أيتها النفس المطمئنة} {ارجعي إلى رَبِّكِ} هذا خطاب والنداء يكون عند الموت، وقيل: عند البعث وقيل: عند انصراف الناس إلى الجنة أو النار، والأول أرجح، لما روي «أن أبا بكر سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا أبا بكر إن الملك سيقولها لك عند موتك» {راضية} معناه {راضية} بما أعطاها، أو {راضية} عن الله، ومعنى المرضية عند الله، أو أرضاها الله بما أعطاها.{فادخلي فِي عِبَادِي} أي أدخلي في جملة عبادي الصالحين.وقرئ {فادخلي في عبدي} بالتوحيد معناه ادخلي في جسده وهو خطاب للنفس، ونزلت هذه الآية في حمزة.وقيل: في خُبَيْبِ بن عدي الذي صلبه الكفار بمكة، ولفظها يعم كل نفس مطمئنة. اهـ.
|