الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الخازن: قوله: {وما أعجبك} يعني وما حملك على العجلة {عن قومك يا موسى} وذلك أن موسى اختار من قومه سبعين رجلًا يذهبو معه إلى الطور ليأخذوا التوراة.فسار بهم ثم عدل موسى من بينهم شوقًا إلى ربه، وخلف السبعين وأمرهم أن يتبعوه إلى الجبل فقال الله له وما أعجلك عن قومك يا موسى؟ فأجاب ربه ف {قال هم أولاء على أثري} أي هم بالقرب مني يأتون على أثري من بعدي.فإن قلت لم يطابق السؤال الجواب فإنه سأله عن سبب العجلة فعدل عن الجواب، فقال هم أولاء بأنه لم يوجد منه إلا تقدم سيره ثم أعقبه بجواب السؤال فقال: {وعجلت إليك رب لترضى} أي لتزداد رضًا {قال فإنا قد فتنا قومك} أي فإنا ابتلينا الذين خلفتهم مع هارون وكانوا ستمائة ألف فافتتنوا بالعجل غير اثني عشر الفًا {من بعدك} أي من بعد انطلاقك إلى الجبل {وأضلهم السامري} أي دعاهم وصرفهم إلى الضلال وهو عبادة العجل، وإنما أضاف الضلال إلى السامري لأنهم ضلوا بسببه وقيل إن جميع المنشآت تضاف إلى منشئها في الظاهر، وإن كان الموجد لها في الأصل هو الله تعالى فذلك قوله هنا وأضلهم السامري، قيل كان السامري من عظماء بني إسرائيل من قبيلة يقال لها السامرة، وقيل كان من القبط وكان جارًا لموسى وآمن به، وقيل كان علجًا من علوج كرمان رفع إلى مصر وكان من قوم يعبدون البقر {فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا} أي حزينًا جزعًا {قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدًا حسنًا} أي صدقًا يعطيكم التوراة {أفطال عليكم العهد} أي مدة مفارقتي إياكم {أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم} أي أردتم أن تفعلوا فعلًا يجب عليكم الغضب من ربكم بسببه {فأخلفتم موعدي} يعني ما وعدوه من الإقامة على دينه إلى أن يرجع.{قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا} أي بملك أمرنا، وقيل باختيارنا وذلك أن المرء إذا وقع في الفتنة لم يملك نفسه {ولكنا حملنا أوزارًا من زينة القوم} أي حملنا مع أنفسنا ما كان قد استعرناه من قوم فرعون، والأوزار الأثقال سميت أوزارًا لكثرتها وثقلها وقيل الأوزار الآثام، أي حملنا آثامًا وذلك أن بني إسرائيل استعاروا حليًا من القبط ولم يردوها وبقيت معهم إلى حين خروجهم من مصر وقيل إن الله لما أغرق فرعون نبذ البحر حليهم فأخذها بنو إسرائيل فكانت غنيمة ولم تكن الغنائم تحل لهم {فقذفناها} أي ألقيناها قيل إن السامري قال لهم احفروا حفيرة وألقوها فيها حتى يرجع موسى فيرى رأيه فيها.وقيل إن هارون أمرهم بذلك ففعلوا {فكذلك ألقى السامري} أي ما كان معه من الحلي فيها، قال ابن عباس: أوقد هارون نارًا وقال اقذفوا ما معكم فيها، وقيل إن هارون مر على السامري وهو يصوغ العجل فقال له ما هذا قال أصنع ما ينفع ولا يضر فادع لي.فقال هارون أللهم اعطه ما سألك على ما في نفسه.فألقى السامري ما كان معه من تربة حافر فرس جبريل في فم العجل وقال كن عجلًا يخور فكان كذلك.بدعوة من هارون فذلك قوله تعالى: {فأخرج لهم عجلًا جسدًا له خوار} اختلفوا هل كان الجسد حيًا أم لا على قولين أحدهما لا لأنه لا يجوز إظهار خرق العادة على يد ضال بل السامري صور صورة على شكل العجل وجعل فيه منافذ ومخاريق بحيث إذا دخل فيها الريح صوت كصوت العجل.الثاني: أنه صار حيًا وخار كما يخور العجل {فقالوا هذا إلهكم وإله موسى} يعني قال ذلك السامري ومن تابعه من افتتن به.وقيل عكفوا عليه وأحبوه حبًا لم يحبوا شيئًا قط مثله {فنسي} قيل هو إخبار عن قول السامري أي إن موسى نسي إلهه وتركه ها هنا وذهب يطلبه.وقيل معناه أن موسى إنما طلب هذا ولكنه نسيه وخالفه في طريق آخر فأخطأ الطريق وضل.وقيل هو من كلام الله تعالى وكأنه أخبر عن السامري أنه نسي الاستدلال على حدوث الأجسام وأن الإله لا يحل في شيء.ولا يحل فيه شيء ثم بين سبحانه وتعالى المعنى الذي يجب الاستدلال به فقال: {أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولًا} أي إن العجل لا يرد لهم جوابًا إذ دعوه ولا يكلمهم {ولا يملك لهم ضرًا ولا نفعًا} هذا توبيخ لهم إذ عبدوا ما لا يملك ضر من ترك عبادته ولا ينفع من عبده وكان العجل فتنة من الله تعالى ابتلى به بني إسرائيل.قوله: {ولقد قال لهم هارون من قبل} أي من قبل رجوع موسى {يا قوم إنما فتنتم به} أي ابتليتم بالعجل {وإن ربكم الرحمن فاتبعوني} على ديني في عبادة الله {وأطيعوا أمري} يعني في ترك عبادة العجل.اعلم أن هارون عليه السلام سلك في هذا الوعظ أحسن الوجوه لأنه زجرهم أولًا عن الباطل بقوله: {إنما فتنتم به} ثم دعا إلى معرفة الله تعالى بقوله: {إن ربكم الرحمن} ثم دعاهم إلى معرفة النبوة بقوله: {فاتبعوني} ثم دعاهم إلى الشرائع بقوله: {وأطيعوا أمري} فهذا هو الترتيب الجيد لأنه لابد من إماطة الأذى عن الطريق وهي إزالة الشبهات ثم معرفة الله فإنها هي الأصل ثم النبوة ثم الشريعة.وإنما قال وإن ربكم الرحن فخص هذا الموضع بهذا الاسم لأنه ينبههم على أنهم متى تابوا قبل الله توبتهم لأنه هو التواب الرحيم فقابلوا هذا القول بالإصرار والجحود {قالوا لن نبرح} يعني لن نزال {عليه} يعني على عبادة العجل {عاكفين} يعني مقيمين {حتى يرجع إلينا موسى} كأنهم قالوا لن نقبل حجتك ولا نقبل إلا قول موسى فاعتزلهم هارون ومعه اثنا عشر ألفًا الذي لم يعبدوا العجل.فلما رجع موسى سمع الصياح والجلبة وكانوا يرقصون حول العجل فقال للسبعين الذين معه هذا صوت الفتنة، فلما رأى هارون أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله و{قال} له {يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا} أي أشركوا {ألا تتبعن} أي تتبع أمري ووصيتي وهلا قاتلتهم وقد علمت أني ولو كنت فيهم لقاتلتهم على كفرهم، وقيل معناه ما منعك من اللحوق بي وإخباري بضلالتهم فتكون مفارقتك إياهم زجرًا لهم عما أتوه {أفعصيت أمري} يعني خالفت أمري {قال يا بن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي} يعني بشعر رأسي وكان قد أخذ بذؤابتيه {إني خشيت أن تقول} يعني لو أنكرت عليهم لصاروا حزبين يقتل بعضهم بعضًا فتقول {فرقت بين بني إسرائيل} يعني خشيت إن فارقتهم واتبعتك أن يصيروا أحزابًا فيتقاتلون، فتقول فرقت بني إسرائيل {ولم ترقب قولي} يعني لم تحفظ وصيتي حين قلت لك اخلفني في قومي أصلح وأرفق بهم ثم أقبل موسى على السامري {قال فما خطبك} يعني فما أمرك وشأنك وما الذي حملك على ما صنعت {يا سامري قال} يعني السامري {بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول} يعني من تراب حافر فرس جبريل {فنبذتها} يعني فقذفتها في فم العجل فخار.فإن قلت كيف عرف السامري جبريل ورآه من بين سائر النار.قلت ذكروا فيه وجهين.أحدهما: أن أمه ولدته في السنة التي كان يقتل فيها البنون فوضعته في كهف حذرًا عليه من القتل فبعث الله إليه جبريل ليربيه لما قضى الله على يديه من الفتنة.الوجه الثاني: أنه لما نزل جبريل إلى موسى ليذهب به إلى الطور رآه السامري من بين سائر الناس، فلما رآه قال إن لهذا لشأنًا فقبض القبضة من أصل تربة أثر موطئه، فلما سأله موسى قال قبضت قبضة من أثر الرسول إليك يوم جاء للميعاد.وقيل رآه يوم فلق البحر فأخذ القبضة وجعلها في عمامته لما يريد الله أن يظهره من الفتنة على يديه وهو قوله: {وكذلك سولت} يعني زينت {لي نفسي} وقيل إنه من السؤال والمعنى أنه لم يدعني إلى فعله غيري واتبعت فيه هواي.{قال} يعني موسى للسامري {فاذهب فإن لك في الحياة} يعني ما دمت حيًا {أن تقول لا مساس} يعني لا تخالط أحدًا ولا يخالطك أحد فعوقب في الدنيا بعقوبة لا شيء أوحش منها ولا أعظم وذلك أن موسى أمر بني إسرائيل أن لا يخالطوه ولا يقربوه وحرم عليهم ملاقاته ومكالمته ومبايعته ومواجهته.وقال ابن عباس: لا مساس لك ولولدك.فصار السامري يهيم في البرية مع الوحش والسباع لا يمس أحد وقيل كان إذا مس أحدًا.أو مسه أحد حمجمعيًا فتحامى الناس وتحاموه وكان لا مساس حتى أن بقاياهم اليوم يقولون ذلك {وإن لك} يا سامري {موعدًا} يعني بعذابك في الآخرة {لن تخلفه} قرئ بكسر اللام ومعناه لن تغيب عنه ولا مذهب لك عنه بل توافيه يوم القيامة، وقرئ بالفتح أي لن تكذبه ولم يخلفكه الله بل يكافئك على فعلك {وانظر لننسفنه} أي لنذرينه {في اليم} يعني في البحر {نسفًا} روي أن موسى أخذ العجل فذبحه فسال منه دم وحرقه في النار ثم ذراه في البحر وقيل معناه لنحرقنه أي لنبردنه فعلى هذا التأويل لم ينقلب لحمًا ودمًا فإن ذلك لا يمكن أن يبرد بالمبرد ويمكن أن يقال صار لحمًا ودمًا ثم بردت عظامه بالمبرد حتى صارت بحيث يمكن نسفها في البحر فلما فرغ موسى من أمر العجل وابطال ما ذهب إليه السامري رجع إلى بيان الدين الحق فقال مخاطبًا لبني إسرائيل {إنما إلهكم الله} يعني المستحق للعبادة والتعظيم هو الله {الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علمًا} يعني وسع علمه كل شيء وقيل يعلم من يعبده.قوله: {كذلك نقص عليك من أنباء} يعني من أخبار {ما قد سبق} يعني الأمم الخالية وقيل ما سبق من الأمور {وقد آتيناك من لدنا ذكرًا} وهو القرآن {من أعرض عنه} يعني عن القرآن ولم يؤمن به ولم يعمل بما فيه {فإنه يحمل يوم القيامة وزرًا} يعني حملًا ثقيلًا من الإثم {خالدين فيه} يعني مقيمين في عذاب الوزر {وساء لهم يوم القيامة حملًا} يعني بئس ما حملوا أنفسهم من الإثم {يوم ينفخ في الصور} قيل هو قرن ينفخ فيه يدعي به الناس للمحشر والمراد بهذه النفخة النفخة الثانية لأنه أتبعه بقوله: {ونحشر المجرمين يومئذ زرقًا} يعني نحشر المجرمين زرق العيون سود الوجوه وقيل عميًا وقي عطشًا {يتخافتون} يعني يتشاورون {بينهم} ويتكلمون خفية {إن لبثتم} يعني مكثتم في الدنيا {إلا عشرًا} يعني عشر ليال وقيل في القبور وقيل بين النفختين وهو مقدار أربعين سنة وذلك أن العذاب رفع عنهم بين النفختين فاستقصروا مدة لبثهم لهول ما عاينوا فقال الله تعالى {نحن أعلم بما يقولون} يعني يتشاورون فيما بينهم {إذ يقول أمثلهم طريقة} أي أوفاهم وأعدلهم قولًا {إن لبثتم إلا يومًا} قصر ذلك في أعينهم في جنب ما استقبلهم من أهوال يوم القيامة وقيل نسوا مقدار لبثهم لشدة ما دهمهم قوله: {ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفًا}.قال ابن عباس: سأل رجل من ثقيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كيف تكون الجبال يوم القيامة فأنزل الله تعالى هذه الآية والنسف هو القلع اي يقلعها من أصولها ويجعلها هباء منثورًا {فيذرها} أي يدع أماكن الجبال من الأرض {قاعًا صفصفًا} أي ارضًا ملساء مستوية لا نبات فيها {لا ترى فيها جوعًا ولا أمتًا} يعني لا انخفاضًا ولا ارتفاعًا يعني لا ترى واديًا ولا رابية {يومئذ يتبعون الداعي} أي صوت الداعي ويقف على صخرة بيت المقدس ويقول أيتها العظام البالية والجلود المتمزقة واللحوم المتفرقة هلموا إلى عرض الرحمن {لا عوج له} أي لا عوج لهم عن دعائه ولا يزيعون عنه يمينًا ولا شمالًا بل يتبعونه سراعًا {وخشعت الأصوات للرحمن} يعني سكنت وذلت وخضعت وضعفت والمراد به أصحاب الأصوات وقيل خضعت الأصوات من شدة الفزع {فلا تسمع إلا همسًا} وهو الصوت الخفي قال ابن عباس: هو تحريك الشفاه من غير نطق وقيل أراد بالهمس صوت وطء الأقدام إلى المحشر كصوت أخفاف الإبل.{يومئذ لا تنفع الشفاعة} لأحد من الناس {إلا من أذن له الرحمن} يعني إلا من أذن له أن يشفع {ورضي له قولًا} قال ابن عباس: يعني قال لا إله إلا الله، وفيه دليل على أنه لا يشفع غير المؤمن، وقيل إن درجة الشافع درجة عظيمة فهي لا تحصل إلا لمن يأذن الله له فيها وكان عند الله مرضيًا {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم} قيل الكناية راجعة إلى الذين يتبعون الداعي، أي يعلم الله ما قدموا من الأعمال وما خلفوا من الدنيا وقيل الضمير يرجع إلى من أذن له الرحمن وهو الشافع، والمعنى لا تنفع الشفاعة إلا لمن أذن له الرحمن أن يشفع ثم قال يعلم ما بين أيديهم أي أيدي الشافعين وما خلفهم {ولا يحيطون به علمًا} قيل الكناية ترجع إلى ما أي هو يعلم ما بين راجعة إلى الله تعالى أي ولا يحيطون بالله علمًا. اهـ..قال ابن جزي: {وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى}.قصص هذه الآية أن موسى عليه السلام، لما أمره الله أن يسير هو وبنو إسرائيل إلى الطور، تقدم هو وحده مبادرة إلى أمر الله، وطلبًا لرضاه، وأمر بني إسرائيل أن يسيروا بعده، واستخلف عليهم أخاه هارون، فأمرهم السامريّ حينئذ بعبادة العجل، فلما وصل موسى إلى الطور دون قومه قال الله تعالى: ما أعجلك عن قومك؟ وإنما سأل الله موسى عن سبب استعجاله دون قومه ليخبره موسى بأنهم ياتون على أثره، فيخبره الله بما صنعوا بعده من عبادة العجل، وقيل: سأله على وجه الإنكار لتقدّمه وحده دون قومه فاعتذر موسى بعذرين: أحدهما أن قومه على أثره: أي قريب منه، فلم يتقدّم عليهم بكثير فيوجب العتاب، والثاني أنه إنما تقدم طلبًا لرضا الله.{وَأَضَلَّهُمُ السامري} كان السامريّ رجلًا من بني إسرائيل يقال: إنه ابن خال موسى، وقيل: لم يكن منهم وهو منسوب إلى قرية بمصر يقال لها سامرة، وكان ساحرًا منافقًا {فَرَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ} يعني رجع من الطور بعد إكمال الأربعين يومًا التي كلمه الله بها {أَسِفًا} ذكر في [الأعراف: 149].{أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا} يعني ما وعدهم من الوصول إلى الطور {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العهد} يعني المدة وهذا الكلام توبيخ لهم {بِمَلْكِنَا} قرئ بالفتح والضم والكسر، ومعناه ما أخلفنا موعدك بأن مَلَكْنا أمرنا، ولكن غُلبنا بكيد السامريّ، فيحتمل أنهم اعتذروا بقلة قدرتهم وطاقتهم ويناسب هذا المعنى القراءة بضم الميم، واعتذروا بقلة ملكهم لأنفسهم في النظر وعدم توفيقهم للرأي السديد، ويناسب هذ المعنى القراءة بالفتح والكسر {حُمِّلْنَآ أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ القوم} الأوزار هنا الأحمال؛ سميت أوزارًا لثقلها، أو لأنهم اكتسبوا بسببها الأوزار أي الذنوب، وزينة القوم هي: حُلّي القبط قوم فرعون؛ كان بنو إسرائيل قد استعاروه منهم قبل هلاكهم، وقيل: أخذوه بعد هلاكهم فقال لهم السامريّ اجمعوا هذا الحليّ في حفرة حتى يحكم الله فيه، ففعلوا ذلك وأوقد السامريّ نارًا على الحلّي وصاغ منه عجلًا وقيل: بل خلق الله منه العجل من غير أن يصنعه السامري، ولذلك قال لموسى قد فتنا قومك من بعدك {فَقَذَفْنَاهَا} أي قذفنا أحمال الحلي في الحفرة {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ} كان السامريّ قد رأى جبريل عليه السلام، فأخذ من وطء فرسه قبضة من تراب، وألقى الله في نفسه أنه إذا جعلها على شيء مواتًا صار حيوانًا فألقاها على العجل فجاز العجل أي: صاح صياح العجول. فالمعنى أنهم. قالوا كما ألقينا الحلي في الحفرة ألقى السامريّ قبضة التراب {جَسَدًا} أي جسمًا بلا روح، والخوار صوت البقر {فَقَالُواْ هاذآ إلهكم} أي قال ذلك بنو إسرائيل بعضهم لبعض {فَنَسِيَ} يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون من كلام بني إسرائيل والفاعل موسى: أي نسي موسى إلهه هنا، وذهب يطلبه في الطور، والنسيان على هذا بمعنى الذهول، والوجه الثاني: أن يكون من كلام الله تعالى، والفاعل على هذا السامريّ: أي نسي دينه وطريق الحق، والنسيان على هذا المعنى: الترك.{أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا} معناه لا يردّ عليهم كلامًا إذا كلموه وذلك ردّ عليهم في دعوى الربوبية له، وقرئ {يَرْجِعُ} بالرفع، وأن مخففة من الثقيلة، وبالنصب وهي مصدرية.{قَالَ ياهرون مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضلوا أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} لا زائدة للتأكيد، والمعنى ما منعك أن تتبعني في المشي إلى الطور، أو تتبعني في الغضب لله، وشدّة الزجر لمن عبد العجل، وقتالهم بمن لم يعبده؟{قَالَ يَبْنَؤُمَّ} ذكر في [الأعراف: 150] {تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي} كان موسى قد أخذ بشعر هارون ولحيته من شدّة غضبه، لما وجد بني إسرائيل قد عبدوا العجل {إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَآئِيلَ} أي: لو قاتلت من عبد العجل منهم بمن لم يعبده، لقلت فرقت جماعتهم وأدخلت العداوة بينهم، وهذا على أن يكون معنى قوله: {تَتَّبِعَنِ} في الزجر والقتال، ولو أتبعتك في المشي إلى الطور لاتبعني بعضهم دون بعض، فتفرقت جماعتهم وهذا على أن يكون معنى {تَتَّبِعَنِ} في المشي إلى الطور {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} يعني قوله له: اخلفني في قومي وأصلح.{قَالَ فَمَا خَطْبُكَ ياسامري} أي قال موسى ما شأنك؟ ولفظ الخطب يقتضي الانتهار، لأنه يستعمل في المكاره {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ} أي رأيت ما لم يروه يعني: جبريل عليه السلام وفرسه {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول} أي قبضت قبضة من تراب من أثر فرس الرسول وهو جبريل، وقرأ ابن مسعود {من أثر فرس الرسول} وإنما سمى جبريل بالرسول، لأن الله أرسله إلى موسى، والقبضة مصدر قبض، وإطلاقها على المفعول من تسمية المفعول بالمصدر كضرب الأمير، ويقال: قبض بالضاد المعجمة إذا أخذ بأصابعه وكفه، وبالصاد المهملة: إذا أخذ بأطراف الأصابع وقد قرئ كذلك في الشاذ {فَنَبَذْتُهَا} أي ألقيتها على الحلي، فصار عجلًا أو على العجل فصار له خوار {فَإِنَّ لَكَ فِي الحياة أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ} عاقب موسى عليه السلام السامري؛ بأن منع الناس من مخالطته ومجالسته ومؤاكلته ومكالمته، وجعل له مع ذلك أن يقول طول حياته: لا مساس؛ أي لا مماسة ولا إذاية، وروي أنه كان إذا مسه أحد أصابت الحمى له وللذي مسه، فصار هو يبعد عن الناس وصار الناس يبعدون عنه {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا} يعني العذاب في الآخرة وهذا تهديد ووعيد {ظَلْتَ} أصله ضللت، حذفت إحدى اللامين والأصل في معنى ظل: أقام بالنهار، ثم استعمل في الدأب على الشيء ليلًا ونهارًا {لَّنُحَرِّقَنَّهُ} من الإحراق بالنار، وقرئ بفتح النون وضم الراء بمعنى نبرده بالمبرد، وقد حمل بعضهم قراءة الجماعة على أنها من هذا المعنى، لأن الذهب لا يفنى بالإحراق بالنار، والصحيح أن المقصود بإحراقه بالنار إذابته وإفساد صورته، فيصح حمل قراءة الجماعة على ذلك {ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليم نَسْفًا} أي نلقيه في البحر، والنسف تفريق الغبار ونحوه {إِنَّمَآ إلهكم الله} الآية: من كلام موسى لبني إسرائيل.{كذلك نَقُصُّ عَلَيْكَ} مخاطبة من الله تعالى لسيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وأنباء ما قد سبق: أخبار المتقدمين {ذِكْرًا} يعني القرآن {مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ} يعني إعراض تكذيب به {وِزْرًا} الوزر في اللغة الثقل، ويعني هنا العذاب لقوله: {خَالِدِينَ فِيهِ} أو الذنوب لأنها سبب العذاب {وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ القيامة حِمْلًا} شبه الوزر بالحمل لثقله، قال الزمخشري: {وَسَاءَ} تجري مجرى بئس، ففاعلها، مضمر يفسره {حِمْلًا}، وقال غيره: فاعلها مضمر يعود على الوزر {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور} أي ينفخ الملك في القرن، وقرأ ننفخ بالنون أي بأمرنا {زُرْقًا} أي زرق الألوان كالسواد، وقيل: زرق العيون من العمى.{يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْرًا} أي يقول بعضهم لبعض في السرّ: إن لبثتم في الدنيا إلا عشر ليال وذلك لاستقلالهم مدّة الدنيا، وقيل: يعنون لبثهم في القبور {يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْمًا} أي يقول أعلمهم بالأمور، فالإضافة إليهم إن لبثتم إلا يومًا واحدًا فاستقل المدّة أشد مما استقلها غيره {يَنسِفُهَا رَبِّي} أي يجعلها كالغبار ثم يفّرقها {فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا} الضمير في يذرها للجبال، والمراد موضعها من الأرض، والقاع الصفصف: المستوي من الأرض الذي لا ارتفاع فيه.{لاَّ ترى فِيهَا عِوَجًا} المعروف في اللغة أن العوج بالكسر في المعاني، وبالفتح في الأشخاص والأرض شخص، فكان الأصل أن يقال فيها بالفتح، وإنما قاله بالكسر مبالغة في نفيه، فإن الذي في المعاني أدق من الذي في الأشخاص، فنفاه ليكون غاية في نفي العوج من كل وجه {ولا أَمْتًا} الأمت: هو الارتفاع اليسير.{لاَّ تَنفَعُ الشفاعة إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن} يحتمل أن يكون الاستثناء متصلًا، ومن في موضع نصب ينتفع وهي واقعة على المشفوع له، فالمعنى لا تنفع الشفاعة أحدًا إلا من أذن له الرحمن في أن يُشفع له، وأن يكون الاستثناء منطقعًا ومن واقعه على الشافع، والمعنى لكن من أذن له الرحمن يشفع {وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} إن أريد بمن أذن له الرحمن المشفوع فيه، فاللام في له بمعنى لأجله، أي رضي قول الشافع لأجل المشفوع فيه، وإريد الشافع فالمعنى رضي له قوله في الشفاعة.{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} الضميران لجميع الخلق، والمعنى ذكر في آية الكرسي {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} قيل: المعنى لا يحيطون بمعلوماته كقوله: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255]، والصحيح عندي أن المعنى لا يحيطون بمعرفة ذاته؛ إذ لا يعرف الله على الحقيقة إلا الله، ولو أراد المعنى الأوّل لقال ولا يحيطون بعمله، ولذلك استثنى إلا بما شاء هناك ولم يستثن هنا. اهـ.
|