الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
والخطاب لغير معيّن ممّن يُتوهّم أن يغرّه حسن حال المشركين في الدنيا.والغَرّ والغرور: الإطماع في أمر محبوب على نيّة عدم وقوعه، أو إظهار الأمر المضرّ في صورة النافع، وهو مشتقّ من الغرّة بكسر الغين وهي الغفلة، ورجل غِرّ بكسر الغين إذا كان ينخدع لمن خادعه.وفي الحديث: «المؤمن غرّ كريم» أي يظنّ الخير بأهل الشرّ إذا أظهروا له الخير.وهو هنا مستعار لظهور الشيء في مظهر محبوب، وهو في العاقبة مكروه.وأسند فعل الغرور إلى التقلّب لأنّ التقلّب سببه، فهو مجاز عقليّ، والمعنى لا ينبغي أن يغرّك.ونظيره: {لا يفتننّكم الشيطان}.و(لا) ناهية لأنّ نون التوكيد لا تجيء مع النفي.وقرأ الجمهور: {لا يَغُرّنَّك} بتشديد الراء وتشديد النون وهي نون التوكيد الثقيلة؛ وقرأها رويس عن يعقوب بنون ساكنة، وهي نون التوكيد الخفيفة.والتقلّب: تصرّف على حسب المشيئة في الحروب والتجارات والغرس ونحو ذلك، قال تعالى: {ما يجادل في آيات الله إلاّ الذين كفروا فلا يَغْرُرْك تَقَلُّبُهم في البلاد} [غافر: 4].و{البلاد}: الأرض.والمتاعُ: الشيء الذي يشتري للتمتّع به.وجملة {متاع قليل} إلى آخرها بيان لجملة {لا يغرنك}.والمتاع: المنفعة العاجلة، قال تعالى: {وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع} [آل عمران: 185]. اهـ.
.من لطائف وفوائد المفسرين: .من لطائف القشيري في الآيتين: قال عليه الرحمة:{لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)}.لا تتداخلنك تهمة بأنَّ لهم عندنا قدرًا وقيمة إنما هي أيام قلائل وأنفاس معدودة، ثم بعدها حسرات مترادفة، وأحزان متضاعفة. اهـ..من فوائد الشعراوي في الآيتين: قال رحمه الله:{لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ}.وإذا ما سمعنا كلمة {تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ} فاعلم أن التقلب يحتاج إلى قدرة على الحركة. والقدرة على الحركة تكون في مكان الإنسان وبلاده، فإذا اتسعت قدرتك على الحركة وانتقلت إلى بلد آخر، فعندئذ يقال عن هذا الإنسان: فلان نشاطه واسع أي أن البيئة التي تحيا فيها ليست على قدرة قدرته، بل إن قدرته أكبر من بيئته، لذلك فإنه يخرج من بلده. وكان ذلك يحدث، فكفار قريش كانوا يرحلون من بلدهم في رحلات خارجها. لذلك قال الحق: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ} [آل عمران: 196].والتقلب كما عرفنا ينشأ عن: قدرة وحركة واتساع طموح. وسبحانه يريد أن يبين لنا أن زخارف الحياة قد تأتي لغير المؤمنين. إن كل زخرف هو متاع الحياة الدنيا وهو مرتبط بعمر الإنسان في الوجود. ومهما أخذوا فقد أخذوا زينة الحياة وغرورها؛ فسبحانه هو القائل: {وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185].إنها حياة لها نهاية. أما الذي يريد أن يُصَعِّدَ النعمة ويصعد النفع فهو يفعل العمل من أجل حياة لا تنتهي. والكافرون قد يأخذون العاجلة المنتهية، ولكن المؤمنين يأخذون الآجلة التي لا تنتهي.وحين نقارن بين طالب الدنيا وطالب الآخرة، نرى أن الصفقة تستحق أن نناقشها من نواحيها وهي كما يلي: لا تقس عمر الدنيا بالنسبة لذاتها، ولكن قس عمرها بالنسبة لعمر الفرد في الحياة؛ لأن عمر الدنيا عند كل فرد هو مدة بقائه فيها، فهب أن الدنيا دامت لغيري، فمالي ولها، إن عمر الدنيا قصير بالنسبة لبقاء الإنسان فيها، وإياك أن تقارنها بقولك: إن الدنيا سوف تبقي لملايين السنين؛ لأنها ستظل ملايين السنين لملايين الخلق غيرك، وعمر الدنيا بالنسبة لك هو عمرك فيها، وعمرك فيها محدود، وهذا على فرض أن الإنسان سيعيش متوسط الأعمار. فما بالك وعمرك فيها مظنون؛ لأن الموت يأتي بلا سن ولا يرتبط بسبب أو بزمان. ولذلك فالإنسأن لا يضمن متوسط الأعمار. وعمر الآخرة متيقن وهو إلى خلود.إذن فعمر الإنسان في الدنيا مظنون وعمره في الآخرة متيقن، والدنيا محدودة، وفي الآخرة خلود، ونعيمك في الدنيا منوط بقدرتك على تصور النعمة وإمكاناتها. ولكن نعيمك في الآخرة على قدر عظمة رَبّك وعطائه العميم؛ لذلك قال الحق عنها: إنها متاع الغرور. ولم يأت الله لها باسم أقل من اسم الدنيا، فهل هناك اسم أقل وأحقر من هذا؟ إن الذين يغترون بما يناله الخارجون عن منهج الله من تقلبهم في البلاد عليهم أن يتذكروا أن كل ذلك إلى زوال وضياع. وعلينا أن نقارن التقلب في البلاد بما أعده الله لنا في الآخرة. وساعة تقارن هذه المقارنة تكون المقارنة سليمة..ولذلك يتابع الحق قوله عن تقلب الذين كفروا في البلاد: {مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}.والمهد هو المكان الذي ينام فيه الطفل. ومعنى ذلك أن الحق يقلب فيهم في جهنم كما يريد، لأنه لا قدرة لهم على أي شيء، شأنهم في ذلك شأن الطفل، يزال ملازما لفراشه ومهده حتى يقلبه ويحركه غيره. ويأتي المقابل لهؤلاء وهم المؤمنون فيقول: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ...}. اهـ..سؤال وجواب: فإن قيل: فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز عليه الاغترار فكيف خوطب بهذا؟فعنه جوابان:أحدهما: أن الله عز وجل إنما قال له ذلك تأديبًا وتحذيرًا.والثاني: أنه خطاب لكل من سمعه، فكأنه قال: لا يغرنك أيها السامع تقلب الذين كفروا في البلاد. اهـ..فوائد لغوية وإعرابية: قال ابن عادل:قوله: {مَتَاعٌ} خبر مبتدأ محذوف، دَلَّ عليه الكلام، تقديره: تقلبهم، أو تصرفهم متاع قليل. والمخصوص بالذم محذوف، أي: بئس المهاد جهنم. ومعنى {مَتَاعٌ قَلِيلٌ} أي: بُلْغة فانية، ومُتْعة زائلة. اهـ..تفسير الآية رقم (198): قوله تعالى: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)}.مناسبة الآية لما قبلها: قال البقاعي:ولما بين بآية المهاجرين أن النافع من الإيمان هو الموجب للثبات عند الامتحان.وكانت تلك الشروط قد لا توجد، ذكر وصف التقوى العام للأفراد الموجب للإسعاد، فعقب تهديد الكافرين بما لأضدادهم المتقين الفائزين بما تقدم الدعاء إليه بقوله تعالى: {قل أأنبئكم بخير من ذلكم} [آل عمران: 15] فقال تعالى: {لكن الذين اتقوا ربهم} أي أوقعوا الاتصاف بالتقوى بالائتمار بما أمرهم به المحسن إليهم والانتهاء عما نهاهم شكرًا لإحسانه وخوفًا من عظم شأنه {لهم جنات} وإلى جنات، ثم وصفها بقوله: {تجري من تحتها الأنهار} تعريفًا بدوام تنوعها وزهرتها وعظيم بهجتها.ولما وصفها بضد ما عليه النار وصف تقلبهم فيها بضد ما عليه الكفار من كونهم في ضيافة الكريم الغفار فقال: {خالدين فيها} ولما كان النزل ما يعد للضيف عند نزوله قال معظمًا ما لمن يرضيه: {نزلا} ولما كان الشيء يشرف بشرف من هو من عنده نبه على عظمته بقوله: {من عند الله} مضيفًا إلى الاسم الأعظم، وأشار بجعل الجنات كلها نزلًا إلى التعريف بعظيم ما لهم بعد ذلك عنده سبحانه من النعيم الذي لا يمكن الآدميين وجه الاطلاع على حقيقة وصفه، ولهذا قال معظمًا- لأنه لو أضمر لظن الاختصاص بالنزل- {وما عند الله} أي الملك الأعظم من النزل وغيره {خير للأبرار} مما فيه الكفار ومن كل ما يمكن أن يخطر بالبال من النعيم. اهـ..من أقوال المفسرين: .قال الفخر: اعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد أتبعه بالوعد بالنزل، والنزل ما يهيأ للضيف وقوله: {لَكِنِ الذين اتقوا رَبَّهُمْ} يتناول جميع الطاعات، لأنه يدخل في التقوى الاحتراز عن المنهيات، وعن ترك المأمورات.واحتج بعض أصحابنا بهذه الآية على الرؤية لأنه لما كانت الجنة بكليتها نزلا، فلابد من الرؤية لتكون خلعة، ونظيره قوله تعالى: {إِنَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كَانَتْ لَهُمْ جنات الفردوس نُزُلًا} [الكهف: 107] وقوله: {نُزُلًا} نصب على الحال من {جنات} لتخصيصها بالوصف، والعامل اللام، ويجوز أن يكون بمعنى مصدر مؤكد، لأن خلودهم فيها إنزالهم فيها أو نزولهم، وقال الفراء: هو نصب على التفسير كما تقول: هو لك هبة وبيعا وصدقة ثم قال: {وَمَا عِندَ الله} من الكثير الدائم {خَيْرٌ لّلأَبْرَارِ} مما يتقلب فيه الفجار من القليل الزائل، وقرأ مسلمة بن محارب والأعمش {نُزُلًا} بسكون الزاي، وقرأ يزيد بن القعقاع {لَكِنِ الذين اتقوا} بالتشديد. اهـ..قال أبو حيان: {لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها} لما تضمن ما تقدم أن ذلك التقلب والتصرف في البلاد هو متاع قليل، وإنهم يأوون بعد إلى جهنم، فدل على قلّة ما متعوا به، لأنّ ذلك منقض بانقضاء حياتهم، ودلّ على استقرارهم في النار.استدرك بلكن الأخبار عن المتقين بمقابل ما أخبر به عن الكافرين، وذلك شيئان: أحدهما مكان استقرار وهي الجنات، والثاني ذكر الخلود فيها وهو الإقامة دائمًا والتمتع بنعيمها سرمدًا.فقابل جهنم بالجنات، وقابل قلة متاعهم بالخلود الذي هو الديمومة في النعيم، فوقعت لكن هنا أحسن موقع، لأنه آل معنى الجملتين إلى تكذيب الكفار وإلى تنعيم المتقين، فهي واقعة بين الضدين. اهـ..قال القرطبي: قوله تعالى: {نُزُلاٍ مِّنْ عِندِ الله} نُزُلًا مثل ثوابًا عند البصريين، وعند الكِسائي يكون مصدرًا.الفراء: هو مفسر.وقرأ الحسن والنخعِي {نُزُلًا} بتخفيف الزاي استِثقالًا لا لِضمتين، وثقّله الباقون.والنّزُولُ: ما يُهيأ للنزّيل.والنزيل الضيف.قال الشاعر:والجمع الأنزال.وحظ نزِيل: مجتمِعٌ.والنزل: أيضا الرّيْع؛ يُقال؛ طعام كثير النزْل والنزُل.قلت؛ ولعل النزل والله أعلم.ما جاء في صحيح مسلم من حديث ثَوْبَان مولى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: في قصة الحِبَرْ الذي سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم: أين يكون الناس يوم تبدّل الأرضُ غير الأرضِ والسموات؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هم في الظلمة دون الجِسر» قال: فمن أوّل الناس إجازة؟ قال: «فقراء المهاجِرين» قال اليهودي: فما تُحفَتُهم حين يدخلون الجنة؟ قال: «زيادة كبِد النون» قال: فما غذاؤهم على إثرها؟ فقال: «ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها» قال: فما شرابهم عليه؟ قال: «من عينٍ فيها تسمى سلسبِيلًا» وذكر الحديث.قال أهل اللغة: والتحفة ما يتحف به الإنسان من الفواكه.والطُّرَف محاسِنه وملاطِفه، وهذا مطابِق لما ذكرناه في النزل، والله أعلم.وزِيادة الكَبِد: قطعة منه كالأصبع.قال الهروِيّ: {نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أي ثوابًا.وقيل رِزقًا. اهـ. بتصرف يسير. .قال أبو حيان: ظاهره حوالة الصلة على ما تقدم من قوله: {نزلًا من عند الله}.والمعنى: أن الذي أعده الله للأبرار في الآخرة خير لهم، فيحتمل أن يكون المفضل عليه بالنسبة للأبرار أي خير لهم مما هم فيه في الدنيا، وإليه ذهب: ابن مسعود.وجاء: «لموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها» ويحتمل أن يكون بالنسبة إلى الكفار، أي: خير لهم مما يتقلب فيه الكفار من المتاع الزائل.وقيل: خير هنا ليست للتفضيل، كما أنها في قوله تعالى: {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرًا} والأظهر ما قدمناه.وللأبرار متعلق بخير، والأبرار هم المتقون الذين أخبر عنهم بأن لهم جنات.وقيل: فيه تقديم وتأخير.أي الذي عند الله للأبرار خير لهم، وهذا ذهول عن قاعدة العربية من أن المجرور إذ ذاك يتعلق بما تعلق به الظرف الواقع صلة للموصول، فيكون المجرور داخلًا في حيز الصلة، ولا يخبر عن الموصول إلا بعد استيفائه صلته ومتعلقاتها. اهـ..فوائد بلاغية: قال في صفوة التفاسير:البلاغة:تضمنت هذه الآيات من ضروب البيان والبديع ما يلي:1- الإطناب في قوله: {ربنا} حيث كرر خمس مرات، والغرض منه المبالغة في التضرع إلى الله العلى الكبير.2- الطباق في كل من {السموات}، {الأرض} و{الليل والنهار} و{قياما وقعودا} و{ذكر أو أنثى}.3- الإيجاز بالحذف {ما وعدتنا على رسلك} أي على ألسنة رسلك وكذلك في قوله: {ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا} أي قابلين ربنا.4- الجناس المغاير في قوله: {آمنوا.. فآمنا} وفي {عمل عامل} وفي {مناد ينادي}.5- {لآيات لأولي الألباب} التنكير للتفخيم ودخلت اللام في خبر إن لزيادة التأكيد.6- الاستعارة في قوله: {لا يغرنك تقلب الذين كفروا} استعير التقلب للضرب في الأرض لطلب المكاسب والله أعلم. اهـ.
|