الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.التفسير الإشاري: قال الألوسي:ومن باب الإشارة في الآيات: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين ءامَنُواْ الذين يُقِيمُونَ الصلاة} أي صلاة الشهود والحضور الذاتي {وَيُؤْتُونَ الزكاة} أي زكاة وجودهم {وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: 55] أي خاضعون في البقاء بالله.والآية عند معظم المحدثين نزلت في عليّ كرّم الله تعالى وجهه، والإمامية كما علمت يستدلون بها على خلافته بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا فصل، وقد علمت منا ردّهم والحمد لله سبحانه ردّ كلام، وكثير من الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم يشير إلى القول بخلافته كرّم الله تعالى وجهه بعد الرسول عليه الصلاة والسلام بلا فصل أيضًا إلا أن تلك الخلافة عندهم هي الخلافة الباطنة التي هي خلافة الإرشاد والتربية والإمداد والتصرف الروحاني لا الخلافة الصورية التي هي عبارة عن إقامة الحدود الظاهرة وتجهيز الجيوش والذب عن بيضة الإسلام ومحاربة أعدائه بالسيف والسنان، فإن تلك عندهم على الترتيب الذي وقع كما هو مذهب أهل السنة، والفرق عندهم بين الخلافتين كالفرق بين القشر واللب، فالخلافة الباطنة لب الخلافة الظاهرة، وبها يذب عن حقيقة الإسلام، وبالظاهرة يذب عن صورته، وهي مرتبة القطب في كل عصر، وقد تجتمع مع الخلافة الظاهرة كما اجتمعت في علي كرم الله تعالى وجهه أيام أمارته، وكما تجتمع في المهدي أيام ظهوره، وهي والنبوة رضيعا ثدي، وإلى ذلك الإشارة بما يروونه عنه عليه الصلاة والسلام من قوله: «خلقت أنا وعلى من نور واحد» وكانت هذه الخلافة فيه كرم الله تعالى وجهه على الوجه الأتم.ومن هنا كانت سلاسل أهل الله عز وجل منتهية إليه إلا ما هو أعز من بيض الأنوق، فإنه ينتهي إلى الصديق رضي الله تعالى عنه كسلسلة ساداتنا النقشبندية نفعنا الله تعالى بعلومهم، ومع هذا ترد عليه كرم الله تعالى وجهه أيضًا، وبتقسيم الخلافة إلى هذين القسمين جمع بعض العارفين بين الأحاديث المشعرة أو المصرحة بخلافة الأئمة الثلاثة رضي الله تعالى عنهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الترتيب المعلوم، وبين الأحاديث المشعرة أو المصرحة بخلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه بعده عليه الصلاة والسلام بلا فصل، فحمل الأحاديث الواردة في خلافة الخلفاء الثلاثة على الخلافة الظاهرة، والأحاديث الواردة في خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه على الخلافة الباطنة ولم يعطل شيئًا من الأخبار، وقال بحقيقة خلافة الأربع رضي الله تعالى عنهم أجمعين.وأنت تعلم أن هذا مشعر بأفضلية الأمير كرم الله تعالى وجهه على الخلفاء الثلاثة، وبعضهم يصرح بذلك، ويقول: بجواز خلافة المفضول خلافة صورية مع وجود الفاضل لكن قد قدمنا عن الشيخ الأكبر قدس الله تعالى سره أنه قال: ليس بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه رجل، وليس مقصوده سوى بيان المرتبة في الفضل فافهم {وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ والذين ءامَنُواْ} فإنه من حزب الله تعالى أي أهل خاصته القائمين معه على شرائط الاستقامة {فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون} [المائدة: 56] على أعدائهم الأنفسية والأفاقية، وقد صح «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله سبحانه لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تعالى وهم على ذلك» {الغالبون يا أيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ} أي حالكم الذي أنتم عليه في السير والسلوك {هُزُوًا وَلَعِبًا} فطعنوا فيه {مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} وهم المقتصرون على الظاهر فقط كاليهود أو على الباطن فقط كالنصارى {والكفار} الذين حجبوا بأنفسهم عن الحق {أَوْلِيَاء} للمباينة في الأحوال {واتقوا الله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 57] به عز شأنه {وَإِذَا ناديتم إِلَى الصلاة} أي الحضور في حضرة الرب {اتخذوها هُزُوًا وَلَعِبًا ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} [المائدة: 58] الأسرار ولم يفهموا ما في الصلاة من بلوغ الأوطار، فقد صح «حبب لي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة» {قُلْ يا أهل أَهْلِ الكتاب هَلْ تَنقِمُونَ} وتنكرون {مِنَّا إِلاَّ أَنْ ءامَنَّا بالله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ} [المائدة: 59] فجمعنا بين الظاهر والباطن وطرنا بهذين الجناحين إلى الحضرة القدسية {وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير} أي بدلنا صفاتهم بصفات هاتيك الحيوانات من الحيل والحرص والشهوة وقلة الغيرة {وَعَبَدَ الطاغوت} وهو كل ما يطغى مما سوى الله تعالى أي أنهم انقادوا إليه وخضعوا له، ومن أولئك من هو عابد الدرهم والدينار {أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا} [المائدة: 60] لأنهم أبطلوا استعدادهم الفطري وضلوا ضلالًا بعيدًا {وترى كَثِيرًا مّنْهُمْ يسارعون في الإثم والعدوان وَأَكْلِهِمُ السحت} [المائدة: 62] أي يقدمون بسرعة على جميع الرذائل لاعتيادهم لها وتدربهم فيها وكونها ملكات لنفوسهم، فالإثم رذيلة القوة النطقية والعدوان رذيلة القوى الغضبية، وأكل السحت رذيلة القوى الشهوية {وَقَالَتِ اليهود} لحرمانهم من الأسرار التي لا يطلع عليها أهل الظاهر {يَدُ الله} تعالى عما يقولون {مَغْلُولَةً} فلا يفيض غير ما نحن فيه من العلوم الظاهرة {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} وحرموا إلى يوم القيامة عن تناول ثمار أشجار الأسرار {وَلُعِنُواْ} أي أبعدوا عن الحضرة الإلهية {بِمَا قَالُواْ} من تلك الكلمة العظيمة {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ} بهما {كَيْفَ يَشَاء} [المائدة: 64] فيفيض حسب الحكمة من أنواع العلوم الظاهرة والباطنة على من وجده أهلًا لذلك، وإلى الظاهر والباطن أشار صلى الله عليه وسلم «بالليل والنهار» فيما أخرجه البخاري وغيره «يد الله تعالى ملآى لا يغيضها سخاء الليل والنهار» {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب ءامَنُواْ} الإيمان الحقيقي {واتقوا} شرك أفعالهم وصفاتهم وذواتهم، ولو أنهم آمنوا بالعلوم الظاهرة {واتقوا} الإنكار والاعتراض على من روي من العلوم الباطنة وسلموا لهم أحوالهم كما قيل:{لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سيئاتهم} التي ارتكبوها {ولادخلناهم جنات النعيم} [المائدة: 65] في مقابلة إيمانهم واتقائهم {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة} بتحقق علوم الظاهر والقيام بحقوق تجليات الأفعال والمحافظة على أحكامها في المعاملات {والإنجيل} بتحقق علوم الباطن والقيام بحقوق تجليات الصفات والمحافظة على أحكامها في المكاشفات {وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رَّبّهِمْ} من علم المبدأ والمعاد وتوحيد الملك والملكوت من عالم الربوبية الذي هو عالم الأسماء {لاَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ} أي لرزقوا من العالم الروحاني العلوم الإلهية والحقائق العقلية والمعارف الحقانية {وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} أي من العالم السفلي الجسماني العلوم الطبيعية والإدراكات الحسية، وبالأول: يهتدون إلى معرفة الله تعالى ومعرفة الملك والجبروت، وبالثاني: يهتدون إلى معرفة عالم الملك، فيعرفون الله تعالى إذا تم لهم الأمران باسمه الباطن والظاهر بل بجميع الأسماء والصفات، وللطيبي هنا كلام طيب يصلح لهذا الباب، فإنه قال بعد أن حكى عن البعض أنه قال في {لاَكَلُواْ} الخ: أي لوسع عليهم خير الدارين، وقلت: هذا في حق من عدد سيآتهم من أهل الكتاب إذا أقاموا مجرد حدود التوراة والإنجيل، فما ظنك بالعارف السالك إذا قمع هوى النفس وانكمش من هذا العالم إلى معالم القدس معتصمًا بحبل الله تعالى وسنة حبيبه صلى الله عليه وسلم فإنه تعالى يفيض على قلبه سجال فضائله وسحائب بركاته، فكمن فيه كمون الأمطار في الأرض، فتظهر ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه.وفي تعليق الأكل من فوق ومن تحت الأرجل على الإقامة بما ذكر، واختصاص {مِنْ} الابتدائية ما يلوح إلى معنى قوله عليه الصلاة والسلام: «من عمل بما علم ورثه الله تعالى علم ما لم يعلم».لأنهم إذا أقاموا العمل بكتاب الله سبحانه استنزل ذلك من فوقهم البركات، فإذا استجدوا العمل لتلك البركات المنزلة وقاموا عليها بثبات أقدامهم الراسخة استنزل ذلك لهم من الله عز وجل بركات هي أزكى من الأولى، فلا يزال العلم والعمل يتناوبان إلى أن ينتهي السالك إلى مقام القرب ومنازل العارفين، وفي ذكر الأرجل إشارة إلى حصول ثبات القدم ورسوخ العلم، وفي اقترانها مع تحت دلالة على مزيد الثبات وأنهم من الراسخين المقتبسين علومهم من مشكاة النبوة دون المتزلزلين الذين أخذوا علومهم من الأوهام، ولذا كتب بعض العارفين بهذه الآية إلى الإمام إرشادًا له إلى معرفة طريق أهل الله عز شأنه انتهى.وقد وجه بعض أهل العبارة ممن هو مني في موضع التاج من الرأس لا زال باقيًا ذكر الأرجل هنا بأنه للإشارة إلى أن المراد بقوله سبحانه: {مِن تَحْتِ أَرْجُلُهُمْ} الأمور السفلية الحاصلة بالسعي والاكتساب كما أن المراد بقوله تعالى: {مّن فَوْقِهِمْ} الأمور الحاصلة بمجرد الفيض، وحينئذٍ يقوى الطباق بين المتعاطفين.ولعلك تستنبط مما ذكره الطيبي غير هذا الوجه مما يوافق أيضًا مشرب أهل الظاهر، فتدبر {مّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ}، قيل: عادلة واصلة إلى توحيد الأسماء والصفات {وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 66] وهم المحجوبون بالكلية الذين لن يصلوا إلى توحيد الأفعال بعد فضلًا عن توحيد الصفات، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. اهـ. .التفسير المأثور: قال السيوطي:{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)}.أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل...} الآية. قال: أما اقامتهم التوراة والإنجيل فالعمل بهما، وأما {ما أنزل إليهم من ربهم} فمحمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه، وأما {لأكلوا من فوقهم} فأرسلت عليه مطرًا، وأما {من تحت أرجلهم} يقول: لأنبت لهم من الأرض من رزقي ما يغنيهم {منهم أمة مقتصدة} وهم مسلمة أهل الكتاب.وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس {لأكلوا من فوقهم} يعني لأرسل عليهم السماء مدرارًا {ومن تحت أرجلهم} قال: تخرج الأرض من بركاتها.وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية يقول: لأكلوا من الرزق الذي ينزل من السماء، والذي والذي ينبت من الأرض.وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة {لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} يقول لأعطتهم السماء بركاتها والأرض نباتها {منهم أمة مقتصدة} على كتاب الله قد آمنوا، ثم ذم أكثر القوم فقال: {وكثير منهم ساء ما يعملون}.وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن الربيع بن أنس قال: الأمة المقتصدة. الذين لا هم فسقوا في الدين ولا هم غلوا. قال: والغلو الرغبة، والفسق التقصير عنه.وأخرج أبو الشيخ عن السدي {أمة مقتصدة} يقول: مؤمنة.وأخرج ابن أبي حاتم عن جبير بن نفير. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يوشك أن يرفع العلم. قلت: كيف وقد قرأنا القرآن وعلمناه أبناءنا؟ فقال: ثكلتك أمك يا ابن نفير إن كنت لأراك من أفقه أهل المدينة! أوليست التوراة والإنجيل بأيدي اليهود والنصارى؟ فما أغنى عنهم حين تركوا أمر الله، ثم قرأ {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل} الآية».وأخرج أحمد وابن ماجة من طريق ابن أبي الجعد عن زياد بن لبيد قال «ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا فقال: وذلك عند ذهاب أبنائنا يا رسول الله، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن، ونقرئه أبناءنا، ويقرئه أبناؤنا أبناءهم، إلى يوم القيامة؟ قال: ثكلتك أمك يا ابن أم لبيد.! إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أوليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل، ولا ينتفعون مما فيهما بشيء».وأخرج ابن مردويه من طريق يعقوب بن زيد بن طلحة عن زيد بن أسلم عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر حديثًا قال: ثم حدثهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «تفرَّقت أمة موسى على إحدى وسبعين ملة، سبعون منها في النار وواحدة منها في الجنة. وتفرقت أمة عيسى على اثنين وسبعين ملة، واحدة منها في الجنة وإحدى وسبعون في النار. وتعلوا أنتم على الفريقين جميعًا بملة واحدة في الجنة واثنتان وسبعون في النار، قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: الجماعات الجماعات» قال يعقوب بن زيد: كان علي بن أبي طالب إذا حدث بهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا فيه قرآنًا {ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا} إلى قوله: {ساء ما يعملون} وتلا أيضًا {وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} [الأعراف: 181] يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم. اهـ.
|